27-مارس-2017

ربيع جابر (يوتيوب)

يغفو ربيع جابر على ما تكتنزه ذاكرته ويصحو عليه. الشخصية الهادئة فوق العادة التي يتميز بها تخبّئ ضجيجًا لا متناهيًا لحيوات تسكنه، لشخصيات أعماله وكأنه قابلها فعلًا، أو كأنه هو نفسه إحداها. ومن يؤمن بمعتقد التقمّص أو لا يؤمن به سيرى في كتابات الروائي اللبناني، الذي نال جائزة البوكر قبل أعوام عن روايته "دروز بلغراد"، ما هو أبعد من مجرّد بحث عن حقبة معيّنة في الكتب والمراجع، وما هو أكبر من صوغ فريد بعبارات قصيرة تصل إلى حدود الكلمة الواحدة.. سيجد سردًا عميقًا مقترنًا بوصف بديع ودقيق، وكأن الكاتب نفسه عاش بنفسه كل الوقائع التي يتناولها والأحداث التي يتحدث عنها، ليصل إلى خلاصة تمزج ما بين التأويل والفرضية مفادها أن ربيع جابر يروي عن الأجيال التي عاشها في حيوات مختلفة.

كأنّ ربيع جابر يروي عن الأجيال التي عاشها في حيوات مختلفة

اللافت في الكاتب البيروتي التصاقه بأرشيف المدينة/ القرية/ بيروت، التي كانت قبل ما يزيد عن قرنين من الزمن قريةً صغيرةً تتحصن داخل سور حجري. وفي استعراضه لتلك البيئة، وعرضها على من يتأففون الازدحام والتلوث السمعي والبصري والنفسي في عاصمة تطاول بنيانها، واكتظت شوارعها بالناس والحجارة، ينبش بعضًا من التاريخ الذي يجهله الكثيرون بمن فيهم البيارتة أنفسهم، ليبدو جابر في ما كتبه من أعمال، خصوصًا "دروز بلغراد"، ومن قبلها ثلاثية "بيروت مدينة العالم" متآلفًا مع بيروته، مفتونًا بها، ومنفردًا في العيش داخل سورها بعد زواله.

اقرأ/ي أيضًا: "سيد المرصد الأخير".. مصائر الزعامات المحلية

قرار الالتحاق بربيع جابر في رحلته عبر التاريخ محفوف بالحنين. ولن يكون من السهل بعد الشروع بالقراءة الانسحاب من دهاليز بيروت، وأبوابها وشوارعها ومساجدها القديمة وأسواقها الحرفية العتيقة. ولا فراق الشخصيات البيروتية، التي يحار القارئ إن كانت من نسج خيال الروائي أم من ماضي ترحاله في الزمن، سيكون ممكنًا بعد رسم المشهد البيروتي العريق بطابعه الأصلي الأصيل، وبعد منح الرجالات في المقاهي أنفاسًا من نراجيلهم، أو عافيةً وجاهًا في دكاكينهم المملوءة بالحرير والزجاج الملوّن والدخّان.. ولا بعد دخول المنازل الحجرية من طرقاتها الكلسية وإشعال الحواس بروائح المأكولات المطهوّة على نيران المواقد، وإلقاء نظرة على النسوة في يومياتهن المتشابهة في مهامها، والمتفاوتة في أهميتها الروائية وفق ما كان شاهد ربيع جابر أو اشتهى.

رغم انصرافه إلى مدينته القديمة للكتابة عنها، إلا أن ربيع جابر لم يسجن نفسه داخل سورها، بل طاول في حديثه عنها وعن التبدلات التي شهدتها، ووفق السياق الروائي الذي رسمه لتطور نصوصه، محيطها وما هو أبعد منه، ليتناول بالوصف تارة، وبالسرد تارة أخرى وبالاثنين معًا غالبًا، الحياة القروية التي كانت غطّت كل لبنان في جبله وساحله، على السواء، ليبيّن عن قصد، أو غير قصد، تلك العفوية والبساطة والعراقة في أسلوب الحياة، وكأنه بذلك يستنهض الهوية التي اندثرت والحقيقة التي غُيّبت بالطمس والطبيعة التي أفناها التطبّع.

إن كان ربيع جابر قد خصّ بيروت بأعمال عدّة، فإنه لم يغفل القرية اللبنانية كذلك

اقرأ/ي أيضًا: واحدٌ من أولاد الغيتو

جابر إن كان خصّ بيروت بأعمال عدّة، منها ما هو سوريالي بالحديث عن مدينته المتخيّلة، أو المستعادة ربما، في "بريتوس مدينة تحت الأرض"، حيث تلعب الفانتاسمات دورًا كبيرًا في التخيّل عند الكتابة ورسم المشاهد، وكذلك عند القراءة، غير أنه لم يغفل القرية اللبنانية حيث هي في الجبال العالية، وذلك في كتب عدّة أبرزها "يوسف الإنجليزي" و"أميركا"، دون أن يشكّل خروجه من بيروته خروجًا عنها، فهي الحاضرة في وجدانه تتكثّف أوجه شبهها مع الجبال المحيطة بها والبعيدة عنها في ذاك الزمن، الذي يبدو ربيع جابر في هدوئه وشروده الدائمين غارقًا في تفاصيله وفصوله، وهانئًا في يومياته مع من كتب أو سيكتب عنهم. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ

حارس الموتى.. لو لم تحدث الحرب