15-فبراير-2018

تصميم بنان شكارنة

لعل إحراق أبي حيّان التوحيدي لكتبه عام 400 هجري أبلغ تعبير عن شخصية الكاتب وتوجهاته الفكرية وحال زمنه ومآل مصيره. فمعرفته الموسوعية التي جعلته يقفز من علم إلى آخر، وأحيانًا يجمع العلوم كلها في كتاب واحد، تاركًا بصمته العميقة في كل فرع؛ كانت عاملًا في مضاعفة شكّه الفلسفي وإسقاطه على ما أنتجه، دافعةً إياه إلى الاستخفاف به وتسليمه للحريق فيه.

يعد "الإمتاع والمؤانسة" من الكتب الجامعة وإن طغى عليه الطابع الأدبي

صحيح أنّ إحراق الكتب قرئ كفعل انتقامي من زمنه، الذي دفعه إلى الاستتار وأبقاه في فقر دائم، لكّن الصحيح أكثر أنّ إنكار منجزه هو إدراك يائس أنه كان ضحية ثقافته وإبداعه.

هو علي بن محمد بن العباس، اختلف المؤرخون في أصله. ولد في بغداد سنة 312 للهجرة ونشأ فيها. لقّب بالتوحيدي لأنّ أباه كان يبيع نوعًا من التمر ببغداد اسمه التوحيد، فيما يرى ابن حجر العسقلاني أن اللقب يحتمل أن يكون نسبة إلى التوحيد الذي هو الدين، لأنّ المعتزلة كانوا يسمون أنفسهم "أهل العدل والتوحيد".

قال عنه ياقوت الحموي: "كان متقنًا في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان صوفي السمت والهيئة، وكان يتألّه (يتنسك) والناس على ثقة من دينه، وكان جاحظيًّا يسلك في تصانيفه مسلك الجاحظ. يُشتهى أن ينتظم في سلكه فهو شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق المتكلمين، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء".

لم يكن ذا حظ من هناءة العيش وهدوء البال، بل كان على كثرة ما صحب من ذوي السلطان وأصحاب النفوذ في الدولة بائسًا فقيرًا. لم يملك الهندام الذي يؤهله لدوام مجالسة السادة وعليّة القوم، لولا تفضل ذوي الفضل عليه ومساعدته للوصول إلى مجالس الأمراء والوزراء، ومن هؤلاء صديقه أبو الوفا المهندس.

كان دائم الشكوى من ظروفه، حتى إنه كتب في "الإمتاع والمؤانسة": "خلّصني أيها الرجل من التكفّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء".

ترك مصنفات عديدة في شتى العلوم والآداب، التزم فيها طريقة التناظر والتحاور، وأسلوب المحاضرة والمسامرة، مما لم يسبق إليه. هنا وقفة مع بعضٍ من كتبه.


1. الإمتاع والمؤانسة

يعدّ "الإمتاع والمؤانسة" من الكتب الجامعة وإن غلب عليه الطابع الأدبي. الكتاب ثمرة مسامرات في سبع وثلاثين ليلة، نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض. وبالإضافة إلى قيمة الكتاب الأدبية، هو أيضا يتفرد بنوادر لم يوردها غيره كما يكشف -وعلى امتداد ثلاثة أجزاء عن بعض جوانب الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية لتلك الأيام.

يعتبر "الإمتاع والمؤانسة" أهم كتبه، بل صار يشار بعنوانه إلى المعنى العميق للأدب. تكمن أهميته في أنه يقدم النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، في الدولة البويهية، فيتعرض للشؤون الاجتماعية، ويصف الأمراء والوزراء ومجالسهم، ويتناول العلماء ويحلّل شخصياتهم، وما كان يدور في مجالسهم، كما يصف النزاعات الفكرية التي شهدها.

الإمتاع والمؤانسة

2. البصائر والذخائر

قضى التوحيدي زمنًا طويلًا يقارب الخمسة عشر عامًا في كتابة "البصائر والذخائر". يعرض مطالعاته التي تقدّم أحوال زمنه وتيارات وآراء معاصريه، مبرزًا فيها رأيه الشخصي، وأيضًا شخصيته أكثر ربما من أي كتاب آخر بسبب المدة الزمنية التي قضاها في تدوينه.

يعرّف موقع "الورّاق" الكتاب على النحو الآتي: "من أشهر موسوعات الاختيارات الأدبية وأجملها. تضم النسخة المطبوعة بتحقيق الدكتورة وداد القاضي سبعة آلاف وتسعًا وسبعين قطعة أدبية. اختارها أبو حيان من مروياته وقراءته، وأصدرها تباعًا في عشرة أجزاء، ما بين سنة 350 هـ و375 هـ، وقد وصلتنا تسعة منها، في أجزاء متفرقة في مكتبات العالم، في إسطنبول ورامبور وميلانو ومانشستر وكمبريدج".

البصائر والذخائر

3. الهوامل والشوامل

"الهوامل والشوامل" مجموعة من الأسئلة التي شملت كافة مظاهر حياة الإنسان، أطلق عليها "الهوامل"، أي الإبل السائمة المتفرقة التي يهملها صاحبها ويتركها ترعى، وأجابه مسكويه بمجموعة أجوبة سماها "الشوامل"، أي الرعاة التي تضبط الإبل الهوامل. ما يعني أنّ شوامل مسكويه ضبطت هوامل التوحيدي، ولعل التوحيدي هو صاحب هذه التسمية. ورغم أن الكتاب منسوب في أجوبته لمسكويه، إلا أن الحقيقة أنه أجاب التوحيدي على أسئلته مشافهة، لكن الأخير بذاكرته المتوقدة استطاع أن ينقل هذا الأثر الفريد.

الهوامل والشوامل

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: الجاحظ مؤسّس البيان العربي

ركن الورّاقين: تاريخ الأدب العربي كما رواه كارل بروكلمان