27-يونيو-2016

لاهيا جادو/ العراق- تركمانستان

"بلا مبرر للحياة
خالف طريق الأمل
وسار بدرب مستقيم"*

مرة أولى له:

استيقاظٌ آخر كغيره يجُرني إليه نور الشمس المزعج بعض الشيء وأصوات تلك الطيور المقيتة التي تحب الحياة على عكس ما أفعل، نظرتُ إلى جانبي فوجدتها تغط بنوم عميق نوم يقول لي إنها ستستيقظ كعادتها في الوقت المحدد حتى وإن كانت تبدو ميتة، لا أعلم كيف تفعل ذلك!

جررتُ جسدي شبه العاري إلى غرفة الجلوس ورميتُ به على الأريكة البيضاء التي تتوسط الغرفة بعبثية. نظرتُ إلى السماء من خلال النافذة، البعيدة نسبيًا، قبالتي وتذكرت! اليوم نكون قد أتممنا سنة ونحن نعيش معًا، سنة لم ندرك منها سوى شهرين، كعشيقَين مراهِقَين.

استيقظتْ! مرت أمامي وعيناي تتلصصان فخذيها الأبيضَين وكأني لا أعيش معها، وكأني لم أمارس الجنس معها يومًا. أعددتْ كوب قهوة كبيرًا ارتشفت منه رشفتين، أو ربما ثلاثًا، ثم أفرغت محتوياته في الحوض. كان يبدو عليها القلق، لم أسألها، نظرتْ إليَّ وكأنها تريد أن تقول شيئًا لكنها غيرتْ رأيها قبل أن تفكر بالأمر حتى.

مرة أخيرة لها:

أعلم جيدًا أن الأمر بات ممل. كأننا أخوَان، نحن نقطن ذات الشقة قرابة السنة، ومع أننا توقفنا عن حب بعضنا البعض بعد أول شهرين قضيناهما معًا إلا أن الأمر لا يبدو مهمًا لنا نحن الاثنين، نخرج ونعود دون أن يسأل أحدنا الآخر أين كنت؟ ولمَ تأخرت؟ نتسكع مع من نشاء ونفعل كل ما يحلو لنا، وكأننا نعيش وحيدين بمكانين منفصلين، شبح فقط يعيش معي وشبح أنا أعيش معه.

هل يبدو الأمر غريبًا؟ إذن، اخبروني بغرابة أن نتشارك السرير منذ عشرة شهور، نتشاركه فقط لم يتقرب مني خلالها أبدًا، ولم أفكر بأني ربما أريد ذلك. أتذكرُ مرة أنني عدت إلى الشقة في وقت لم أعتد على العودة فيه، وجدته مع فتاة، شعرتُ بالخجل واعتذرتُ منه، خرجت وعدت بعد ساعة، لم يبرر لي! لم أنتظر منه تبريرًا بل اعتذرت مجددًا فأخبرني أن لا بأس!

لم أُجرح، لم أهتم، لم أفكر بالأمر حتى.

هذا الصباح عندما استيقظت شعرت بأن هناك شيئًا أود أن أقوله، لكني لم أعرف ما هو، حتى أني خرجت مسرعة لكي لا يعاود تفكيري ذلك الشعور!

مرة أولى للغريب:

لا أحبذ التواجد في حي يعج بالفقراء، ولكن قدمَيَّ ساقتاني إلى هنا، لم أعترض.

استندت إلى حائط وجلست القرفصاء، أمامي البحر وبجانبي مجموعة من الحمقى سيئّي الرائحة، أرض مغطاة بالحصى، ونبتة صغيرة أحببت النظر إليها كثيرًا شقت طريقها بينهم.

مع كل تلك الرائحة التي كانت تزعج أنفي المدلل إلا أن عبقًا طيبًا جاءني من بعيد، التفتُ فإذا بها امرأةٌ بيضاء طويلة القامة بعض الشيء ترتدي ثوبًا أحمر قصيرًا، وتغطي جسدها العلوي بوشاح أخضر، كانت جميلة وسط كل ذلك القبح الذي يحيط بها، ومع أنها انتعلت حذاء بكعب عالٍ إلا أنها سارت على الحصى بطريقة مغرية للغاية، طريقة جعلت من أفكاري الجنسية، سادية نحوها.

نسيتُ النبتة للحظات وما إن عادت إلى فكري مجددًا وأنزلتُ عيني للبحث عنها كانت المرأة الجميلة قد دهستها بوحشية.

أردتُ أن أركض خلفها، أجرها من يدها وأطلب منها الاعتذار إلى تلك المسكينة، وفي تلك اللحظة كانت الجميلة قد أسقطتْ شيئًا على الأرض وانحنت لتلتقطه، بانحناءتها تلك كشفت عن قلادة براقة، قلادة حملت إلى قلبي نفس الشعور الذي حملته تلك النبتة المجاهدة. شعور جعلني أعتقد بأن النبتة قد بُعثت وعُلقت وسامًا بصدر تلك التي فتنتني. تراجعتُ عن فكرتي ورجعتُ عائدًا إلى عملي.
 
مرة أخيرة له:

وقف الزمن من حولي والهواء ثقل، ارتعشت أوصالي وابيض شعري رعبًا.

في ذلك النهار المشؤوم، في ذلك اليوم السيئ، وبعد أن خرجتْ من المنزل، فكرتُ أن أعود لأنام.. ومع أنني أحسستُ برغبة العبث بحاجياتها إلا أنني لم أفعل ويالي من غبي، استيقظتُ متأخرًا جدًا وكان الليل قد حل. حينما هممت بالخروج من المنزل عدتُ إلى المرآة، لا أعلم لمَ، صففتُ شعري المصفف مسبقًا ووضعت عطرًا للمرة الثالثة، شيء ما لا يُريد مني أن أخرج اليوم أو ربما شيء يُريد أن أعثر عليه.

ولكنني لم أفهم حتى وقعت عيناي على صندوق كان يجب ألا تفتحَهُ أبدًا. قلادة أهديتها إليها قبل شهرين ربما فرحتْ بها كثيرًا، لم أرها تبتسم هكذا منذ فترة، طلبت منها ألا ترتديَها أبدًا، وإن أرادت فربما حينما ترحل عن هذه المدينة ولكن اليوم، اليوم فقط! قررت دون استشارة أن تقتلني رعبًا.

سقطت أرضًا وانتحبتُ لساعاتٍ طوال.

مرة ثانية للغريب:

مرت ساعات النهار مسرعة على غير عادتها كنتُ، مع ذلك، مجهدًا. فرحتُ بعودتي إلى حيي الهادئ وشقتي الفارهة، سعدتُ كثيرًا بالحمام الذي أخذته، وشعرتُ بالراحة تدب مرة أخرى في خلايا جسدي، لكن، هناك ثقل يجر صدري إلى أعماق محيط مظلم لا نهاية له. دقات قلبي ليستْ على عادتها أيضًا، هذا ما فكرت به، وأنا أهم بالخروج من الحمام : "لا أريد أن أرتدي ملابسي اليوم، لا أريد أن أجفف جسدي حتى"، قطرات الماء المنسابة عليه بهدوء ورفق تذكرني بتدفق الدماء. يبدو الماء أكثر كثافة إلا أنه شعور أردته أن يدوم، توجهتُ إلى نافذة غرفة المعيشة، كان الشارع خاليًا وموحشًا، وهو هكذا دائمًا إلا أن تلك الحركة الغريبة أخافتني. ضوء المنارة الدوار على الجهة الأخرى يضيء الشارع بصورة متناوبة تشبه حركة البندول..
في الإضاءة الأولى مرت قطة
في الثانية كذلك قطة
في الإضاءة الثالثة مرت امرأة وبعدها رجل 
في حي الفقراء المقابل لحينا، هناك كلب ينبح، كيف لي أن أسمع صوته وهو بعيد عني؟!
شَغل تفكيري لبرهة، وبعدها، ما هذا هناك ظلال في حي الفقراء! ظلال تخطف، لا! ظلان يخطفان من أمام عينَي، ظل خائف مستسلم، وظل متجبر.
الظلان يقتربان مني أكثر وأكثر، والأفكار تتسابق في رأسي بصورة تدفعُني للانهيار. أود الهرب أريد حضن أمي الآن لأخبئ رأسي فيه وأصرخ.
الظل الخائف ينظر إليَّ، إنه يتوسل أسمعه، أستطيع أن أسمعه:
-تماسك
يرجوني
- تماسك أرجوك.
-حسنًا حسنًا أنا متماسك، ما الأمر ما الذي يجري؟
-أبقِ عينك عليّ
-انا أحاول أخبرني أيها الظل ما الأمر؟
-أيها الظل ما الذي يحدث؟ ماذا؟ أين أنت أيها الظل؟"
الظل سكتْ واختفى.
لا أراه أبحث عنه، عينَاي تتسابقان.. لا أعلم أين ذهب، نباح الكلب يعلو وحركة ضوء المنارة أصبحت أبطأ. 

وفجأة عاد الظل، اقتربت من النافذة أكثر، في تلك اللحظات التي استجمعتُ بها كامل قوتي واستحضرتُ كامل تركيزي مَرت امرأتان ورجل، يضحكون بصوت عالٍ وصوت القناني بين أيديهم أعلى من استنجاد الظل بي، كانت التفاتة بسيطة، التفاتة لم تدم ثانية واحدة، وعادت عيناي إلى البقعة التي كان من المفترض أن أنظر إليها، البقعة التي رأيت بيها سائلًا أسود يملأ الأرض، وهناك جسد لشيء ما مستلقٍ وسطها. 

مرة أخيرة للغريب:

خانتني قوتي وسقطت أرضًا عندما عاد ضوء المنارة ببطء شديد، عرفت أن السائل الأسود كان دمًا، وأن ما كنت أشعر به ما هو إلا جريمة قتل، والمقتولة كانت الجميلة التي التقيتها صباحًا، دار ضوء المنارة ثلاث مرات قبل أن أستعيد قوتي، وخمس مرات قبل أن أقوى على النهوض، ومرتين قبل أن أنظر إلى الجسد المُسجّى بالدماء.
مرتين أخريتين دار الضوء على جسدها الأبيض حينما لاحظت أن القلادة قد اختفت.

*قصيدة للشاعر العراقي علي رياض من ديوانه الأول "حين استيقظت ميتًا".

اقرأ/ي أيضًا:

الموظ.. قصيدة إليزابيث بيشوب

لاجئ المواصفات القياسيّة