09-سبتمبر-2021

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

لطالما ظننت شباك العناكب الأنيقة التي تكرّر ظهورها في كتب ومسلسلات الطفولة مجرد كذبة، كذبة بيضاء من طفولة تقوم أساسًا على الأكاذيب البيضاء، فبعد زمن قصير سيغفر كل منا لنفسه كلّ ما تحامقت وصدقته، فليس أباه أقوى رجل في العالم، وليس وطنه وطن العزة والمنعة، ولا طائفته أو قبيلته أو عائلته هي الحق والباطل كل الآخرين، كما كتب يعرب العيسى.

هل عناكبنا متخلّفة؟ هل الشباك الفوضوية التي تنتجها تعبير عن روح مشوشة راسخة في الجنوب؟ وهل عناكب الشمال متحضرة وراقية بالفطرة؟

وما وضعت الشباك العنكبوتية ضمن قائمة الأكاذيب إلا لأنّ عناكب بيئتي الأولى دأبت على بنائها فوضوية ومرتجلة، تفتقر إلى ألفباء الحسّ والإتقان. ومن باب العزاء للنفس رحت أنظر إلى تباين الشبكة بين الصورة والواقع على أنه مماثل للتباين بين حجور الفئران في الواقع وبيت الفأر جيري في مسلسل الكرتون الشهير.

اقرأ/ي أيضًا: عن أدب العناكب

بعد سنوات طويلة، طوّرت قدرتي على التحليل فاعتبرت الشباك الواهية جزءًا من العمارة العشوائية، تلك المساحات الموحشة من الإسمنت التي تتلاقى فيها حاجات الفقراء ورغبات الفاسدين. لكنني في شمال الأرض، حيث انتهى بي المطاف، أستعيد تصوري القديم الظالم ذاك وأعيد تقييم حكم القيمة من جديد، فالعناكب، في كل الأمكنة والزوايا المهجورة التي أراقبها، تنشئ شباكًا مُهندسة ببراعة وإتقان، حتى لأكاد أشكّ في أنها تستعمل أدواتٍ عنكبوتيةَ الصنع لا تقلّ دقة عن المنقلة والفرجار، وفي الوقت ذاته ترغمني تلك المشاهدات الدائمة على قراءة الصور الأولى التي في رأسي قراءةً أخرى، فأصل في كل مرة إلى الفكرة ذاتها وهي أن العالم المقسوم بين شرق وغرب، شمال وجنوب، يمكن النظر إليه من خلال اختلاف صنائع عناكب كل منهما، ويمكن قياس مناسيب التأخر والتقدم فيه من خلال جودة الشباك هنا أو هناك، تمامًا كما يُقاس من خلال ارتفاع معدلات الدخل وجودة الخدمات الطبية ورفاه المواطنين ومستوى احترام حقوق الإنسان.

هل عناكبنا متخلّفة؟ هل الشباك الفوضوية التي تنتجها تعبير عن روح مشوشة راسخة في الجنوب؟ وهل عناكب الشمال متحضرة وراقية بالفطرة؟

قرأت كتبًا عديدة عن ذلك الشرخ الأسطوري الذي رسمته تصورات الاستشراق، وطبّقته جيوش الاستعمار، وأجابتني مرارًا أن الأمر مصطنع، إلا أن نمط عيش العناكب يطيح بالنظريات. ويحول كل مجهودات الأكاديميين الأحرار وأصحاب الأجندة إلى غبار.

فأيهما أصدّق: النظريات أم الشباك؟ وعلى أي الجانبين أميل: العناكب أم البروفسورات؟ لا جواب. لا قرار. ليس سوى مزيد من الحيرة والشقاء.

أودّ الاستماع إلى رأي عنكبوت واحد لعله يحسم هذا الصراع الدائر في عقلي! سمعت المنظّرين وقرأت أبحاثهم.. لكنني لا أعرف مما تقوله العناكب سوى الشباك.

ربما، وعلم العناكب عند الطبيعة، هذه الشباك حوارات معنا. كلمات إلينا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أفضل مليون كتاب في التنمية الذاتية

بلادي.. بلادي