29-أغسطس-2021

إيطاليا والبرازيل عام 1982 (Getty)

انقطع اهتمامي بكرة القدم في وقت مبكر للغاية. إصابة ثلاثية قاتلة في منتصف القلب أبعدتني عن المستطيلات الخضراء إلى الأبد، وتركت الألم ينهشني حتى لحظة كتابة هذه الجملة.  

يوم السادس من تموز/يوليو 1982 كنت في الثالثة عشر، أي في العمر المثالي الذي يعتقد فيه الإنسان أن حقائقه مطلقة، وأباه أقوى رجل في العالم، ووطنه هو العزة والمنعة والرفعة، طائفته وقبيلته وعائلته هي الحق، والباطل كل الآخرين. 

في الثالثة عشر، يعتقد الإنسان أن حقائقه مطلقة، وأباه أقوى رجل في العالم، ووطنه هو العزة والمنعة والرفعة

في ذلك السن كنت أظن بلادي من يحدد للعالم ما عليه أن يفعل، وجيش بلادي يحمل سيوفًا يقطرن دمًا من نجدة المظلومين. وأظن فيما أظن أن فريق البرازيل قادم من السماء، والبرازيليون هم سادة تلك اللعبة إلى الأبد، الدكتور العظيم سقراط والألعبان إيدر والقناص زيكو هم خير من ركل كرة على مر التاريخ. وما من مهاجم في العالم يستطيع العبور من أوسكار ولا فيريرا سواءً خوسيه أو لويس كارلوس. 

اقرأ/ي أيضًا: 15 حقيقة عجيبة عن كأس العالم 1982

في اليوم السابق تسمرّنا أمام شاشة التلفزيون الأبيض والأسود، ونحن نمنّي النفس بست أو سبع أهداف سيحرز سيرجينهو نصفها، فما زلنا في الدور الثاني وأمامنا الكثير من الأهداف والمباريات. 

تابع التلفزيون عرض برامجه المعتادة. مضت ساعتان على موعد المباراة ولم نعرف ما الذي جرى. 

في الصباح التالي أتانا خبر من أحد رفاقنا، إيطاليا فازت على البرازيل 3-2 لم يكن الخبر قابلًا للتصديق، ثم جاءنا تأكيد آخر: أبي أخذه من إذاعة لندن، باولو روسي أحرز الأهداف الثلاثة، ولم ينقلوا المباراة لأن الحكم إسرائيلي. 

يا لهول ما أسمع، ليس خبرًا سيئًا، خبران معًا، خبران مدمّران بجملة واحدة: البرازيل خسرت، والبرازيل تقبل التعامل مع اسرائيل، والدول الأجنبية تعتبر الاسرائيليين بشرًا، وتسمح لهم بتحكيم مباريات كرة القدم؟ 

لم يستطع عقلي تقبّل هذه الأخبار، فذهبت لراديو أبي الذي لا أستمع إليه في العادة، وبدأت البحث عن تردد إذاعة لندن، لأسمع بنفسي ما يفنّد كل تلك الأكاذيب. حين جاء المساء كنت قد سمعت عدة نشرات إخبارية ومواجز وتحليلات، وتلقيت تأكيدًا للصفعتين المدويتين، بل وتلقيت معهما الثالثة الحاسمة: شارون على أبواب بيروت. 

ماذا؟ العالم خاطئ لهذه الدرجة؟ البرازيليون قابلون للخسارة، الأبله باولو روسي يستطيع عبور فيريرا، الإسرائيليون يستطيعون تحكيم المباريات، ويستطيعون اجتياح لبنان من جنوبه لشماله. 

جيشنا البطل الذي ذهب إلى هناك ليدافع عن لبنان ليس قادرًا إذًا على إلقاء اسرائيل في البحر حين يشاء. هل هذه هي الإجابة على سؤالي الملح: لماذا لا يشاء؟ 

لم أكن مستعدًا لتحمّل طعنة بهذا الحجم، جسدي الضئيل وروحي الأكثر ضآلة لم تكونا قادرتين على تحمل هول الفجيعة. لم تكن الهزيمة في مباراة كرة قدم لفريقي المفضّل، ولا في الحرب لجيش بلادي، ولا لصورة عدوي، بل كانت هزيمة لحقائقي المطلقة وقناعاتي الراسخة. 

تزلزل إيماني بكل شيء. قضيت زمني في مراجعة كل ما أعرفه وأؤمن به، ثم إعادة مراجعته، ثم وثم.  

حين يفقد الفتى حقائقه، لن يصبح سوى الهرِم الذي بلا حقائق، أو الحيرة التي تمشي على قدمين

هل يكفي مرور أربعين عامًا لأشفى من تلك الجراح؟ لا أظن. فحين يفقد الفتى حقائقه، لن يصبح سوى الهرِم الذي بلا حقائق، أو الحيرة التي تمشي على قدمين.  

اقرأ/ي أيضًا: عندما قام مارادونا بكلّ شيء في كأس العالم 1986

في محاولاتي الكثيرة للعودة إلى لحظة الطمأنينة، كنت أدخل دائمًا من الباب المؤسس، من كرة القدم، فأجبر نفسي على مشاهدة مباراة هامّة وحاسمة، من قبيل نهائي كأس أوربا، نصف نهائي كأس العالم، لكنني دائمًا أجد نفسي وقد بدأت بالتثاؤب مع منتصف الشوط الأول، وغالبا ما أغفو في استراحة الشوطين. 

قرأت كتاب إدواردو غاليانو "كرة القدم بين الشمس والظل" فور صدوره لعله يجرني إلى كرة القدم من جديد من يد الثقافة، لكنّه فعل العكس، وجعلني أكرهها أكثر، قرأت كتاب أليكس بيلوس "الحياة على الطريقة البرازيلية" فعزز نفوري، وفاقم قطيعتي مع كرة القدم، بقطيعة جديدة مع عوالم البرازيل الكروية من أصلها. 

قبل فترة قرأت في مكان ما أن رجلًا برتغاليًا اسمه مورينهو هو أعظم مدرب كرة في العالم، تساءلت ما الذي يجعل من مدرب كرة عظيمًا؟ بحثت عنه لأروي فضولي، فعثرت على مئات المعلومات التي لا أفهمها عن الخطط والتكتيك، لكني عثرت أيضًا على جملة له أعادتني من أذني إلى تلك الذكرى البعيدة، أعادتني إلى تلك الليلة التي تحطمت فيها حقائقي عن كرة القدم وعن بلادي، عن الحروب والجيوش والشعوب، وشعرت أن أربعين عامًا قد تكون وقتًا مناسبًا لتكتفي من الحيرة والألم، ثم تعيد فهم الأشياء بطريقة أخرى. 

قبل مباراة حامية الوطيس (على ما يبدو) سأل مراسل صحفي المدرب مورينهو: هل تشعر بالضغط قبل هذه المباراة؟ 

فأجاب ببساطة: هذه مجرد كرة قدم، كلمة ضغط تقال عندما نتحدث عن أب لا يستطيع أن يجلب الطعام لأبنائه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

باولو روسي.. سجين إيطاليا الذي منحها كأس 1982

قصة كأس العالم 1978.. تونس تهدي العرب الانتصار الأول