28-يناير-2018

من فيلم دوغفيل

تُفتَتح ملحمة "جلجامش" بعبارة ذهبيّة: "هو من رأى كل شيء، فغنّي بذكره يا بلادي". رغم المعنى الكامن في فعل الرؤية الذي استحق الخلود، إلا أن مدوّن الملحمة فاته أن يسجّل فتحًا، في المبنى والمعنى، فيما لو كتب: "هو من روى..."، فمن روى كان قد رأى بالضرورة، وهو رأى وروى.. فأَرانا.

*

يعيد الفنّان إحياء المكان حين يستطيع جعل الفنّ مكانًا قادرًا على استضافة ذلك العدد اللانهائيّ من الناس، بوصفهم سكّانًا لا زوّارًا.

بهذا المعنى، نحن من سكّان ماكوندو ماركيز، ودوغفيل ترايير، وغرنيكا بيكاسو.

*

 

"أنا هو أنت"، واحدة من أبلغ الجمل في العربية، لكنها لم تجد صياغتها بهذه البساطة السحرية إلا على يد محمود درويش.

الجملة التي تقوم على ثلاثة ضمائر، متكلم وغائب ومخاطب، تستحق وقفات عديدة أكبر بكثير من كلام عابر كهذا.. هي خلخلة نحوية، فكرية، عاطفية، و.. وجودية.

فـ"أنا" الحاضر، المتكلم، الماثل أمامك ملءَ الآن، لستُ سوى غائب من وجدي بك يا آخَري ملءَ كلِّ آنٍ.. و"هو" الغائب ربما يكون "أنا"، ربما يكون "أنت"، ربما هو المسافة التي أمد بها يدي حتى تراني فتراك..

*

 

إذا كانت العناكب تكتبُ فهل سوف تَعتبِرُ دَلْقَنَا للماء عليها طوفانًا؟ وإذا كانت هذه المأساةُ مصيرًا حتميًا لكلّ عنكبوتٍ تقريبًا، فهل سوف تحكي مروياتها عن أكثر من نوح؟

إذا كانت النِّمال تفكر، وهي بالتأكيد تفعل، سيكون لديها عباقرة، لكن كيف تنظر عباقرة النّمل إلى عيدان الثقاب التي أشعلناها في أعشاشها جيلًا من الأطفال الأشرار وراء جيل؟ هل تسلك منطقنا البشري وتنقسم بين نظريتي الخلق والانفجار الكبير؟

إذا كانت العظمةُ مرتبطةً بالحجم فنحن عظماء في عيون البعوض. وإذا كان التصاغر أمام العظمة يقود إلى التأليه، فثمة قبائل في فصيلة البعوضيات تعتبرنا آلهةً. السؤال المحيّر: كيف تجرّأت هذه المخلوقات على قلب فكرة القربان، فبدلًا من أن تمنحه لنا تأخذه منا؟

أتمنى معرفة وجهات نظرها، دون داعٍ لانتظار اكتشاف وثائق مكتوبة منها، فكبرى خيبات الأمل حينها أنها فكّرت بالطريقة ذاتها التي فكّرنا فيها، ودون داعٍ للوقوع في أسر تخميناتٍ إنسانية تافهة، ربما لن تشغل الحشرات فيها على الإطلاق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دفتر رسم مستعمل

من دفتر يوميات الموتى