05-مارس-2019

باب شرقي (يوتيوب)

أدركتُ أن الهزيمة وقعت، هزيمة الذكرى عند كل عنصر كانت تمثله تلك المنطقة الدمشقية القديمة، بحاناتها، بمطاعمها الحديثة، بحجر أرضيتها، حيث إنها رغم ذلك، صمّمت على الانتقام من الناجين.

في مقهى الكمال، كان محمد الماغوط وممدوح عدوان يشربان القهوة ويدخنان

كان مساء خميس، وفيما أمشي بين المارة، شعرت بضوضاء تدقّ رأسي بسبب الكلام الذي سمعته مؤخرًا عن التحول الطارئ على منطقة باب شرقي من ناحية روّادها، فضلًا عن منهجية المستثمرين الجدد التجارية، القائمة على احتكار حوانيت ومحلات كانت فيما سبق تستقبل من تبقّى من أصحاب مهنة الكتابة والمثقفين ذوي الدخل المحدود، والعمل على تحويلها إلى بارات حديثة لا تستقبل إلا صنفًا معينًا من الزبائن البرجوازيين، وغالبًا ما يكون شرط دخولها بالترافق مع فتاة.

اقرأ/ي أيضًا: خمارات الثقافة السورية

لا بأس، فأنا كنت على موعد مع إحداهن. كعادتي فضّلت الوصول قبل عشر دقائق لاختيار مطعم وتهيئة أمور الطاولة، حيث لا يتبقى سوى أن تصل الفتاة لأخرج من باب المطعم وأستقبلها.

أوقفت ضوضاء ذلك التفكير الممل في رأسي وانعطفت يسارًا، دخلت من الباب، إنه مكان عرفته جيدًا قبل خمس سنوات، وبشكل شبه يومي كنت أرتاده مع الرفاق. كنا نجلس هنا، على هذه الطاولة بالذات.

"تفضل" انتبهتُ من شرودي عند حضور النادلة مرحّبة.

"مسا الخير.. بدي طاولة لشخصين".

على أنّي قبل انتهاء علامات الترحيب من قِبل تلك الأخيرة ما لبث أن هزّ صداع مزعج دماغي مرة ثانية، ذلك على خلفية مشهد لم أكن أتوقع رؤيته، ففي مطعم (ن. ر) "مراهقون يشربون البيرة المكسيكية، جلبة، صراخ، وصوت أغانٍ حديثة".

"في حجز من قبل... أستاذ؟"

وفيما بعينيّ أراقب المكان أجبتها محركًا رأسي بالنفي.

"بعتذر منك... بس عنا نظام حجز مسبق".

شعرت بالراحة حينما أيقنت أن ليس بوسعي الجلوس في مطعم (ن.ر) وهو على هذه الشاكلة، فقد مرت بي لحظة انفصام كامل حال تذكري لسنتي 2013-2014، وقتما كان هذا المطعم من أظرف الأشياء في شبابنا العشريني الجديد، أمسيات أدبية، لقاءات ثقافية، طاولة يجتمع حولها أساتذة ومثقفون أقلهم قرأ عشرات الكتب ويحفظ عددًا من الدواوين الشعرية، فضلًا عن أن غالبيتهم كانوا من الرفاق أصحاب الوزن في المشهد الثقافي السوري.

كنا نسهر حتى ما بعد منتصف الليل وحينما نخرج - حتى في أشد أوقات احتدام الحرب السورية، وانهمار القذائف فوق هذه المنطقة بالذات - نخرج ثمالى نغني بين الشوارع القديمة مرورًا بباب توما، ثم بسوق الحميدية، وصولًا إلى بيوتنا، على أننا غالبًا ما نصل مشيًا على الأقدام لعدم تبقي أجرة تكسي معنا.

كل هذه السعادة الذكرياتية أزيحت تمامًا حالما رأيت زبائن مطعم (ن.ر) الجدد، إنهم من المراهقين والهبيين الحداثويين، النادل (ه.م) طالب الطب في جامعة دمشق استُبدل بولد يشقّر شعره، أما أغاني محمد عبدالوهّاب وفريد الأطرش استُبدلت بموسيقى التكنو.

حقًا إنها حرقة للقلب، استطعت الآن تجربة حزن الرجال المسنين على مقهى الكمال، والهافانا، بالمناسبة لا بد لي أن أذكر حكايا سمعتها منذ الصغر عن شارع الهافانا الذي كان من أهم شوارع دمشق الثقافية والسياسية.

في مقهى الهافانا بالذات تم تخطيط انقلاب 1966 العسكري. وراء جداره حيث يقبع مقهى الكمال كان ممدوح عدوان ومحمد الماغوط يشربان القهوة ويدخنان، أما بالمقابل وعلى الرصيف الآخر هناك محل أبو فريد، بائع الكاسيتات، الذي سمى ولده الأول فريدًا لشدة ما هو مغروم بفريد الأطرش. هو لا يمتلك محل تسجيلات إن أردنا الدقة في الوصف، إنما يمتلك متحفًا موسيقيًا شاملًا، كل مافيه نادر، فضلًا عن رسالة الفنانة نور الهدى البريدية التي وجهتها إليه بعد تعاون فني بينهما. أبو فريد قام بتجليد الرسالة بالنايلون الشفاف وبروزها، ثم قام بتعليقها في صدر محله، إنه يعتبرها الصورة الأهم من صورة والده المتوفى الموضوعة فوق أشرطة محمد عبد المطلب على الحائط اليساري للمحل.

إن ما يستدعي الحديث حول هذه الذكريات، هو السياق الذي نحن في صدد تناوله، وهو الهزيمة أمام الذكريات القيّمة، هذه الحالة المستغرقة في الاغتراب والاستلاب الفكري الذي نعيشه، إذ إنه ليس تحولًا ثقافيًا كما في دول العالم الأول والثاني، بل هو استلاب واغتراب تاريخي ووطني.

خرجت من (ن.ر) متوجهًا نحو محل ثان أعرفه. حانوت صغير يقع على مقربة من هنا.

"مرحبا... شو ترتيب الليلة، حجز كمان؟".

"إي والله بدك تحجز قبل بـ3 أيام".

"بـ3 أيام !! شو أنا مسافر بريطانيا؟". فتح النادل يديه وزم شفتيه موضحًا أن لا جواب سوى ما قاله، حييته ثم خرجت، أيضًا كلي اطمئنان، فلن أجلس في هذا الحانوت على الأقل، لأنه قد تحول إلى ديسكو.

اقرأ/ي أيضًا: تلك "الأقلية" اللامرئية في دمشق

أبو طلال بائع الكتب التاريخي الذي حوّل مساحة كبيرة من الرصيف المحاذي للمعرض الدولي، تحت جسر السيد الرئيس، إلى مكتبة شاملة، يتردّد إليها معظم سكان دمشق من مثقفين وكتاب وأصحاب مهن وفنانين، كان أيضًا في حالة من الاستغراب والوحشة تجاه موضوع تحول المقاهي والحوانيت إلى أماكن تجارية. يقول أبو طلال: "كان المقهى قديمًا يشكّل فضاء ومنتدى للحوار الثقافي والسياسي لمختلف شرائح المجتمع وخاصة المثقفين بتنوع آرائهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، وبه يعبّرون عن رأيهم ضمن نقاشات وحوارات ملتزمة، ومن أبرز المقاهي الدمشقية مقهى الروضة، رواده من أصحاب السياسة والكتّاب، ومقهى الكمال الذي كان من رواده الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي، ومقهى الهافانا حيث كان يتواجد فيه ويرتاده محمد الماغوط والشاعر العراقي مظفر النواب، وكثير من أصحاب القلم والسياسة، لكن مع ظهور السوشال ميديا تراجع دور المقهى، حيث أصبحت المقاهي بغالبيتها مفتوحة لزبائن لعب الورق والتسلية وقتل الوقت وشرب الأراكيل".

فقدت مقاهي دمشق بريقها الثقافي وصارت مساحات للعب الورق والتسلية وقتل الوقت وشرب الأراكيل

هذه الملاحظة التي قدمها أبو طلال مهمة ولكن ليست هي الأهم، بل المهم أن كل السيناريوهات تصور المشهد الأخير ذاته، بتحول كل مكان يجمع المثقفين وكبار المفكرين والكتّاب إلى مساحة من الضوضاء والابتذال التجاري.

هل التحول هنا تتويج للتشويه والتمسيخ الفكري، أوبالمحصلة العامة هل هذا التمسيخ ثمن لطموح من تبقّى المثقفين الدمشقيين في أن يكونوا مواطنين من الدرجة الأولى؟

 

اقرأ/ي أيضًا:​

دمشق القديمة.. من أثر تاريخي إلى مطعم صاخب

وعثاء السفر