21-يونيو-2016

جيرارد ريختر/ ألمانيا

"لا إله لا الله! لا إله إلا الله". ردّدتها الحناجر في لوعة.. بينما يهبطون السلم الضيق.. حاملين الجسد المكفّن على الكفوف. تتعالى أصوات الصراخ من الأسفل، لكنّه بالكاد يسمع. ثقل الموت طمس أذنيه، وقلبه.

كان دائمًا ما يهرب من الموت، لكنّه اليوم وجده يحدّق في وجهه حتى تجمّد الدم في عروقه. كان يتفادى العزاءات كالطاعون، فإذا به يشهد الغُسل للمرة الأولى في حياته. لم يستطع حتى الارتجاف وهو يشاهد الجثمان تغسله مياه الطهارة. تنزع عنه دنس الحياة، وتكسيه ثوبًا نورانيًا من الهدوء والسكينة. رغم هذا خاف، ليس من الموت. لا يدري لِم خاف حقًا.

والآن، يحمل رأس الميت على كفّه. يتحسس شعره أسفل الكفن الأبيض. يحتكّ جسده بالحائط ليفسح الطريق. بدا السلّم وكأنه بلا نهاية. هل سنحمله حتى نلقاه عند عرش الرحمن فيوفّيه حسابه؟ أستغفر الله.. وضعوه في النعش. ابتعد قليلًا ناظرًا إلى المشهد. "وداعًا أيها الغريب. كانت إقامتك قصيرة حقًا"، ولو كانت أربعين عامًا.

انتبه إلى الخيط الأبيض على ملابسه. ذلك الخيط الذي انحلّ من الكفن واستقر على كتفه. التقطه بعناية وتحسسه بيده. تدفق شيء ما من يده إلى قلبه. وضع الخيط بحرص في جيب صغير. في الأيام التي تلت ذلك، تفقد الخيط بين الحين والآخر، خائفًا أن يضيع. عاد إلى المنزل ليخرج الخيط من جيبه، ثم يضعه في علبة، يغلقها، يخفيها في دولابه، وينام.
*

يمرّ زمن، ويأتي يومٌ آخر.
يتذكّر ذلك اليوم جيدًا: الدفء.. الشمس في حلّتها الزاهية. صمت 15 أيار/مايو الذي هام به كلّما زارها بين الحين والآخر. الأصدقاء مجتمعون جسدًا وقلبًا. لم تنكسر الدائرة. ليس بعد.

ثمّ تأسر قلبه الشموس الصغيرة الصفراء على جانب الطريق. ينحني ليلمس زهرة عباد الشمس. تلقّفت دفء الشمس وفتحت ذراعيها لاحتضان العالم بأسره. فعل ملمسها شيئًا في قلبه. ما زال عاجزًا عن إعطائه اسمًا. لكن الأسماء لا فائدة لها إلا لكي نتحدّث عن ذات الشيء. ولمسات الروح لا تتكرر عند ذات الشخص مرتين، فما الحاجة إلى إعطائها اسمًا من الأصل؟

يرحل..
لحظة.. هناك شيء ناقص..
يتذكّرها. يريدها أن ترى ذلك الجمال كما رآه هو. بغير ذلك لا يطيب شيء على هذه الأرض.
يمرّ ليلًا.. ينحني على أكثر الورود ينعًا وبهاءً، يقتلعها من جذورها ويضعها في حقيبته. ثم ينتبه..
أيها الأحمق! إنها منغلقة على نفسها! كيف ستنفتح الآن؟
يسابق الزمن. يعود مسرعًا إلى المنزل. الطريق طويل، طويل، طويل. اصمدي يا عزيزتي.
يفتح الباب. يهرول. أفسحوا الطريق يا قوم! إنها تموت!
يلتقط كوبًا ويملأه بالماء، يخرج الوردة ويضعها فيه، ثم يضعها في الشرفة. هل ستصمد؟ هل ستتفتح؟
يدرك سريعًا أن انتظاره بلا طائل. فلينم الآن، وليصلّي.
*

يستيقظ. يفرك عينيه. يخرج إلى الشرفة وقلبه ينبض. يفتحها بحذر. يبتسم.

لقد تفتّحت الوردة. أوراقها منحنية قليلًا كأنما تبتسم في إنهاك بينما تعيش ساعاتها الأخيرة، كأنما تنظر إليه بعين حانية. كأنما تفهم جيدًا لماذا اقتلعها من أرضها إلى هنا. لهذا خلقني الله يا بُنيّ، كي أقول ما لا تقدرون على قوله. أفهم ما فعلت ولا ألومك على موتي الوشيك. فقط أرِها إياي.

ثلاثة أيام حتى اللقاء، كل يوم يهرول إلى الشرفة فور أن يستيقظ. يضع الوردة في موضع مختلف عسى الشمس تقترب منها أكثر، يغيّر المياه، يتلمّس الأوراق. يرتوي قلبه.

اليوم الرابع. يأخذ الوردة من الماء، يبتسم لها فتبتسم له. يبحث عن شيء يضعها فيه.

العلبة. 
يخرجها ويفتحها. ما زال الخيط الأبيض يجلس بداخلها. يضع الوردة ثم يُغلق العلبة.

اللقاء.
"عايز أورّيكي حاجة".

يفتح العلبة. يحكي عن الخيط. يحكي عن الوردة، يحكي ويحكي ويحكي. يبتسم الجميع، هي، والوردة، والخيط. وقلبه.
*

يمرّ زمن.. ويأتي الرحيل. هادئًا، مؤلمًا، جميلًا. لأول مرة يفهم معنى كلمة "سلام" التي يقولها الراحلون. لمسة أخرى على قلبه لن ينساها ما دام حيًا.

سلامٌ عليكِ أينما حلّت بك الأقدار.

يقرّر أن يرتّب حجرته في ذلك اليوم. الكثير من الأشياء عديمة القيمة، كأنما أفاق من غيبوبة طويلة ذهل فيها عن كل شيء. "بيئة العمل الجيدة تساعدك على الإنتاج". "تركيزك سيصبح أفضل".

لا تقلق، ستحيا يا ولدي.

ستحيا.

يفتح أحد الأدراج، يجد العلبة التي نسيها منذ زمن طويل.

يفتحها في بطء. يرى المشهد.

خيطٌ من قماش الكفن، يلتفّ حانيًا حول وردة صفراء ذابلة، كأنما احتضنها في لحظاتها الأخيرة. زوجان عجوزان باسمان صعدت روحاهما معًا على سريرهما الأبيض.

سلام.

يبتسم الجميع. الوردة، والخيط، وقلبه.

وهي.

اقرأ/ أيضًا:

السيد القائد

ذئبُ المكان اليَقِظْ