16-يونيو-2016

لم تعد الأحلام هي تلك الأحلام التي يشاهدها المرء في الصباح وهو متعجّب بعيون ناعسة (Getty)

منذ فترة طويلة وقد حصلت أحلامي، وأحلام كلّ إنسان، على شكل جديد كلية وخاص بصورة واضحة. فلم تعد الأحلام تجوّلات كئيبة وسحابات زائلة، تتداخل بلا مضمون ولا سبب، واحدة في الأخرى إلى أن تتلاشى في النهاية وتصبح لا شيء.

لم تعد الأحلام هي تلك الأحلام التي يشاهدها المرء في الصباح وهو متعجّب بعيون ناعسة، شبه مبتسم، ويلوّح بيده في قليل من الغضب الكسول قائلًا: "خيرًا اللهم اجعله خيرًا". تلك الأحلام التي فيما بعد تنسحب إلى الهاوية بشكل سخيف ومرعب، مثلما يختبئ صغار الشياطين في الأماكن البعيدة المظلمة. إن الأحلام التي أحلمها في الوقت الحالي، والتي تحلمها أنت، هي ظلال للواقع الحقيقي، إلا أن الأشكال تبدو مكبّرة بشكل مريع ومشوّهة ومحرّفة بشكل غريب للغاية. بيد أن الواقع يظلّ بالرغم من ذلك باقيًا، تتعرّف عليه على الفور ويمتلئ قلبك بالأسى.

كان الوقت في أحد الصباحات الخريفية الباردة والضباب ينجرف عبر الوادي متسلّقًا المنحدرات الجبلية العمودية. وعلى القمم المغمورة بالأشعة المنيرة للفجر المبكّر كانت تلمع بشائر الثلج التي سقطت بالأمس. السماء صافية ولا تزال تتذكّر ثلج منتصف الليل ونجوم الصباح الباردة، ولكنها بالتأكيد كانت تنتظر الشمس.

نظرت عبر النافذة التي لم يتم غسلها أبدًا. كنت أنظر من خلالها وكأنني أنظر من خلال حجاب إلا أنني تمكّنت من أن أميّز تمييزًا كاملًا كلّ ما كان يحدث أمامي. كانت الأصوات واضحة في الهواء النقي للصباح لدرجة أنني سمعت وفهمت كلّ كلمة. وكان الفناء، المرتفع بقدم عن مستوى الأرض، مملوءًا بالغبار الأسود الذي تحوّل عبر الليل إلى وحل لزج. وبنفس مثل هذا الغبار كانت تتغطّى الأسطح المنخفضة للبيوت والأوراق الذابلة لشجرة الزيتون الواقفة بمفردها وسط الفناء. وتحت هذه الشجرة رأيت جنديًا يمسك بلجام حصان مسرج يصهل ويرتعد من البرد والملل.

وقف جنود السَرية في صفٍ طويل مستقيم على استعداد لأن يتوجّهوا في التوّ إلى ميدان القتال. كانوا يقفون هناك وكأنهم صُنعوا من الحجر. لم تكن ترمش لهم عين وأجسادهم النحيلة تنحني بسهولة تحت عبء حقائب الظهر الثقيلة. ولم أر من قبل أبدًا هذا العدد الكبير من الشباب الجميل في مكان ضيق. الوجوه لا تزال نضرة، بريئة تقريبًا، مفعمة بالنشاط وكأنها مغسولة في ندى الفجر. في العيون أيضًا كان هناك ندى مشرق وكأنها تنظر من روابي بعيدة، من الأحلام الجميلة. إلا أن جميع النظرات كانت مركّزة في ثبات على القائد الذي كان يتمشّى ذهابًا وإيابًا أمام الصفّ الصامت بخطوات بطيئة غير مكترثة.

كان القائد طويلًا للغاية، أطول من كلّ جنود السَرية بمقدار شبر، متدثرًا بمعطف أسود واسع تبرز من تحته ساقان طويلتان رفيعتان. وكان يمسك في يده، التي تبدو من خلال القفّازات بارزة العظام ونحيلة، بعصا يستند عليها وهو يتمشّى. لم أر وجهه لأنه كان طوال الوقت يلتفت تجاه جنود السَرية. وكان يتبعه خطوة بخطوة ملازم شاب، وفي بعض الأحيان كان الملازم يستدير في خوف كما يفعل الإنسان الذي يريد أن يهرب ولكنه يشعر بأنه مقيّد بلا رحمة.
ومرة أخرى بدأ السيد القائد تفتيشه. توقّف أمام أول شخص في الصفّ وكان شابًا طويلًا نحيلًا يحملق فيه مندهشًا بعينين سوداوين صامتتين.

- ما اسمك؟
وذكر الشاب اسمه، وحينئذ برق شيء في صدري: "أنا أعرفك. أنت أيها الشاب الجميل، أنت أيها الشاب الهادئ الممتلئ حماسًا وتطلعًا إلى المستقبل العظيم الذي ينتظرك. تقضي ساعات طويلة في معمل الحاسبات منشغلًا بالكتب والأسلاك، تطرق في التفكير وبقلب مليء تنظر إلى شاشة النتائج لترى أسلافك من العلماء والباحثين العظام. أنت ملجأ الزملاء لشرح ما يتعذّر عليهم فهمه. أنت الطفل المطيع لأمك والمدلّل كذلك، بقبلة في الصباح ومثلها قبل النوم تتلاقيان، فتهديك تلك النظرة من عينيها إذ تدعو لك أن يمنحك الله البركة والحماية من شرّ العين وذهاب الهمّ. هل لا زلت تلعب وسط أشجار الزيتون في مزرعتكم؟".

واستأنف القائد أسئلته:
- ألك والد بالمنزل؟
- الله يرحمه.
- هل على الأقل أمك موجودة؟
- ربنا يخلّيها.
وتلألأ الضوء في العينين اللتين اعتراهما صمت.

عندئذ رفع القائد عصاه ولمس بالطرف المعدني صدر الشاب وأومأ إلى الملازم الذي كان واقفا خلفه. سحب الأخير من كمّه دفترًا وبيد مرتعشة سجّل اسم الشاب. وشحب وجه الشاب.

ومرّ القائد بالقرب من جندي آخر دون حتى أن يلتفت إليه، واقترب من جندي ثالث وتفحصّه بالتفصيل. كان هذا الجندي شابًا، مبتهجًا، وثرثارًا، صاخب الضحكات، ومغنيًا معروفًا وأثيرًا لدى الفتيان. وكان له وجه مستدير عليه أمارات الصحة وحول الأذنين الصغيرتين كانت تلتفّ خصلات من الشعر اللامع مثل سنابل القمح، وعيناه السماويتان تغنّيان بأعلى صوتهما، وشفتاه الحمراوان تستدير بابتسامة سارّة.

وسأله القائد:
- ألديك خطيبة؟
- لدي أيها القائد.
وأخذت العينان الزرقاوان تغنّيان بصوت أعلى، وكانت الأغنية تصل إلى مسافة وضّاءة.

ورفع القائد عصاه وسجّل الملازم الاسم في الدفتر. وخمدت الأغنية في العينين الزرقاوين.

وهكذا كان القائد يستمرّ في سيره ببطء بمحاذاة الصفّ الطويل، يفتّش ويلقي الأسئلة وينتقي. أحيانًا يترك جنديين أو ثلاثة، ولا ينظر إلى البعض الآخر، وبعد ذلك يشير إلى خمسة أو ستة جنود على التوالي. ويبدو لي أنه كان عن عمد وبتأنٍ يختار أكثر الجنود قوة ومنظرًا.

ووصل إلى النهاية، ولآخر مرة رفع عصاه ثم استدار ناحيتي. رأيت وجهه وتوقّف قلبي. كان وجهه بلا بشرة أو لحم، وبدلًا من الجمجمة كانت هناك فجوتان عميقتان، أسنانه طويلة حادة تكشّر فوق الفكّ الصلب العاري.
- إلى الأمام..تقدّمْ.

وعلى الفور تحرّكت السَرية وبخطوات ثابتة توجّهت نحو الضباب بأسفل التلّ. وعلى رأسها كان السيد القائد راكبًا، وعاليًا فوق الضباب كان يرفرف معطفه الأسود.

اقرأ/ي أيضًا:

آكلُ الشمس قطعةَ شوكولا

هذيان آخر البحر