08-يونيو-2016

ملبوس التدين الشعبي للمرأة القاهرية(AP)

تجربتي مع التدين ليست من أحسن ما يكون، كانت دومًا مغلفة بالخوف من أعين جارنا السلفي الناقدة، ومن حرماني من مخبوزات زوجته الشهية، لأن أسرتنا كانت "متدينة" تدينًا عاديًا طبيعيًا بحكم النشأة والبيئة والظروف. ثم جاءت "هوجة" عمرو خالد لتحول الدين إلى إشكالية رومانسية مسطحة، خالية من كل باعث على التفكير والتأمل والشك، فتحول الدين إلى المعادل الموضوعي لأن تمشي معصوب العينين نحو قدرك لأنه قدر إلهي، رغم أن هذه الفكرة تناقض بعد ما درسته عن الإشكاليات الفكرية التي يطرحها الاسلام.

جاءت "هوجة" عمرو خالد لتحول الدين إلى إشكالية رومانسية مسطحة، خالية من كل باعث على التفكير والتأمل والشك

في حياتي الشخصية، مررت بتجربتين شديدتي التناقض خلّفتا في روحي أثرًا عميقًا وشجنًا لا أفر منه إلى إليه. كانت لي صديقتان من الطفولة نحت كل منهما منحى أسميته في مذكراتي بـ"المتطرف" دينيًا. كانت أولهما: نجاة عامود بنت الصعيد، رفيقة أيام الدراسة الأولى، ترتدي ملابس ذات طابع شديد التحفظ لا يقل عن قريناتها من المسلمات المتشددات، لا تتفرج على التلفاز وتعتكف وتصلي ولا تكذب ولا تخالط الصبيان، ثم اتخذت قرارها الذي فاجأت الجميع به وهو أن تدخل الدير لتكون راهبة، قرار فاجأت به حتى أبوها العصبي المتشدد وأخواتها البنات، وكل من يدخل ضمن إطار العائلة بمفهومه الواسع في الصعيد.

اقرأ/ي أيضًا: الإرهاب الفلسطيني في العراق!

أما التجربة الثانية، فكانت رفيقة دربي أيام الجامعة، كنت مرهقة من خطابات التدين المعلبة، الرومانسية، التي تحول الحجاب في أيام الحر إلى "في كل نقطة عرق بيت في الجنة"، و"سأنتظر لأن الحلال أجمل"، كانت تلك الخطابات تثير اشمئزازي وتشعرني بغثيان يضرب معدتي، فأقبلت على السجائر كنوع من إعلاني التمرد على الانضمام لعشيرة "بكل حبة عرق..". أما رفيقتي فقد اتخذت شعارًا أشد تطرفًا وهو أنه لا يهم شيء، لم يلحظ أحد في أسرتها "المتدينة" تدينًا كلاسيكيًا أنها لم تعد تصلي، وأنها ترفض كل أشكال العبودية الجسدية لفكرة أو لشخص مهما كانت قداسته، وكانت تصرح بها دون خوف: "أنا لا أنتمي حتى لخانة الديانة المكتوبة في البطاقة". وكان تصريحها يثير في نفسي الخوف عليها أكثر من الحنق على تجربتها، التي اعتبرتها بشكل ما من الأشكال "شجاعة" بغض النظر عن اتفاقي مع أفكارها أو لا.

مع تحول عدد كبير من زملاء ورفقاء رحلتي إلى المملكة التي يموت فيها الله بلا عودة، شعرت بوحدة كبيرة، ليس لأنني لم أمتلك شجاعة كافية لأقتل الرب في أفكاري، بل لأنني ببساطة ودون تعقيدات "لم أشأ أن أؤمن أن الرب الذي أعبده عديم الفائدة أو الرحمة". لكن كل تصوراتي كانت بلا تنظير، يحبه أصحاب الجدل ولا أفقه فيه. كرهت الإقبال على الدين من باب الرومانسيات، ولم أشأ أن أبدو من يبتلع علقمًا من العذابات اليومية بسبب الإيمان، ثم أقول "يالحلاوة الإيمان اللذيذ"، كنت أبحث عن معنى حقيقي فقط، معنى واحد قد لا يكون مبتذلًا مسطحًا باردًا مستهلكًا تلوكه ألسنة التافهين على شاشات التلفاز.

كنت أبحث عن معنى إيماني حقيقي فقط، معنى واحد قد لا يكون مبتذلًا مسطحًا باردًا مستهلكًا تلوكه ألسنة التافهين على شاشات التلفاز

اقرأ/ي أيضًا: نادي المكتئبين

كان الدرس الأول هو أن الدين تجربة شخصية، بل لعلها أكثر التجارب الإنسانية خصوصية على الإطلاق، وأن فكرة تعميم بعض مكوناتها من التجارب الشخصية ضرب من التسطيح والا ستهانة بعمق الفكرة. 

الدرس الثاني كان حبي الحقيقي لصديقتيَّ -التي ذهبت بملء إرادتها إلى الدير، والتي خرجت بملء إرادتها من حظيرة الدين- حبًا حقيقيًا، وتقبلي لكل منهما على اختلاف اختياراته في الحياة؛ حبًا لا مجال فيه لمثالية تقبل الآخر ورفض سلوكه، بل تقبل لكل ما يفعله الآخر من منطلق تفهم حقيقي لبواعث اختياراته دون التوحد معها، أو محاولة النيل منها، أو حتى محاولة تغييرها. حتى سمعت أحدهم يقول: دعونا كما تطرفنا في رفض الآخر أن نتطرف في قبوله حتى نصل إلى منطقة الوسط.

الأزهر كبناء فيه شيء غريب، ككل الأبنية القديمة ربما. لكنه غريب بحق. حتى تصل إلى بوابته تلف السبع لفات كما يقولون، تصبح مرهقًا وقد تغير الفكرة من الأساس لتعرج بغواية نحو الأسواق من حوله فيجذبك جدل البياعين ورخص بعض البضائع. تتعب قليلًا وتتوه بعض الشيء، لكنك تصل في النهاية إلى المدخل الرئيس غارقًا في عرقك لائذًا بغرف الوضوء التي لا شاعرية فيها إطلاقًا، اللهم إلا القباقيب الخشبية التي تذكرك بتلك التي قتلت شجر الدر في التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: السأم السوداني

لا شيء شاعري في الدين، لا رومانسية. لا شاعرية في أن تقوم من نومك من "أحلى نوماتك" لتصلي الفجر، الصوم عبادة من أشق العبادات على نفسي، الصلاة ليست أمرًا سهلًا، الحياة الجنسية خارج الزواج أمر ليس سيئًا إلى هذا الحد، سمعتها من أكثر من صديق عربي وأجنبي قالوا لي: يفوتك الكثير.

على الإنسان أن يتحمل مسؤولية وجوده ونتائج أفعاله، وأن السماء لن تتدخل دومًا لتصلح فساده

لكني وجدت أن الإيمان فكرة شاقة في أصلها، تحلقت حولها كل المكاره الممكنة، وهي درجات ومستويات وطرق شتى وعديدة لا طريقًا واحدًا، ولا قالبًا واحدًا للوصول لها، وأنها تفرض مقاومة شاقة لكل غرائز الإنسان سواء وافق ذلك هواه أو لا، وأنها تمنح المرء شيئًا من العزيمة في الاستمرار رغم قبح الحياة، وأن الله ليس متهمًا نوجه له الأسئلة لأن الانسان قَبل أن يكون موجودًا- هذا طبقًا للتأويل الذي أؤمن به عن الحياة والموت والإنسان- وأن يتحمل مسؤلية وجوده ونتائج أفعاله، وأن السماء لن تتدخل دومًا لتصلح فساد الإنسان.

الإيمان في تجربتي الشخصية -حتى الآن- كان ترياقًا للحفاظ على صحتي العقلية، ولا أجد غضاضة في التصريح بأن عندي شكوكًا، لكنها لا تمس أبدًا أصل يقيني. سعيدة لكوني لست متدينة على طريقة أحد. وأعرف أن كثيرين ممن سيقرؤون هذه السطور سيهزون رأسهم في مواضع من هذا المقال متفقين معي، وأن غيرهم كثيرين أيضًا لن يعجبهم ما أقول. 

اقرأ/ي أيضًا:

التحفظ الذي يعني الغموض في الجزائر

نكسة حزيران.. بدء حكم الطغاة وهزيمة الإنسان