10-أغسطس-2022
لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

بعيدًا عن المنحى الأكاديمي البحت في تلقّي القصائد، وعن المدارس النقدية وظلالها، سواءً ما يبدو مجديًا منها أو ما يسبب ضررًا لذائقة القارئ، يظل أحد أهم الأسئلة الشعرية بالنسبة لي هو: ما الذي ينبغي أن يقرأه المرء من شعر؟ وما الذي نحققه من مكاسب على المستوى الشخصي بفعل نصٍ شعريٍ ما؟

ليس الشعر مكمّلاً للفن، كما أنه ليس منافسًا له، ولا يقدّم نفسه كصانع سعادات صغيرة ورسائل، أو محقق نبوءات وأحلام

يخبرنا قراء كثر بأن ثمة نصًا قد غير في حيواتهم تفاصيل ومفاصل قد تكون هائلة أو طفيفة. في المقابل، يهزأ قراء آخرون من فكرة أن الشعر في عالم الصورة لم يعد يحمل جديدًا، فصنع شاعر لمشهد شعري عن لحظة عناق على سبيل المثال، مهما كان الشاعر بارعًا ودقيقًا، لا يضاهي شريط فيديو عن الشأن نفسه. إذ يرى متابعون كثر أن الفيلم يحقق حمولةً شعرية أعلى مما يفعل الشعر. وهم يسوقون تلك البدهية استنادًا إلى أن الشعر يشتغل ضمن المنطقة الفنية التي تنطلق منها السينما مثلًا.

ليس الشعر مكمّلاً للفن، كما أنه ليس منافسًا له. وهو ضمن هذا السياق لا يقدّم نفسه كصانع سعادات صغيرة ورسائل، أو محقق نبوءات وأحلام. الاكتظاظ الحالي حول كتب الرواية أو القصة أو الأديان، أو أمام شبابيك التذاكر بالنسبة للسينما، مقابل كساد السوق الشعرية، لا يعني بالضرورة أن الشعر يخسر قرائه.

ما يشغل الشاعر الحقيقي، وإن قليلًا، هو أن يقيم في حيز واحد مع قرائه القليلين الذين لا يخاف أن يخسرهم. لسنا في ماراثون على أية حال، ولعل الشاعر ليس سوى قارئ من قراء قصيدته فحسب.

بالعودة إلى سؤال: ما الذي ينبغي أن يقرأه المرء؟ وبدقة تعوزها القناعة المطلقة أسأل: ما الذي ينبغي أن أقرأه من شعر؟ هل يمكنني أن أضع مواصفات القصيدة التي تهمني بدلًا من أن أنساق مع القراء المحترفين وأضع قائمة الكتب الشعرية؟

بلى، يمكنني. وها أنا أفعل ذلك بحذر شديد أو بروية، وربما أنجز الأمر لنفسي على الأقل.

الفخامة

أفتش عن لغة فخمة، وأعني لغة مترفّعة عن البلاغة المفرطة، وعن الركاكة اليومية التي تختلط باللهجة المعدّلة. لغة لا أتمالك نفسي من القول إنها ليست إلا لغة هذا الشاعر. ولا أحسب هنا أنه صنعها بقدر ما أشير إلى أنه وضع كل مفردة في مكانها بحساسية قد تبدو فطرية. الكلمة ليست مثل اللبنة، لكن لكل نص بناء، وبناء القصيدة التي أرغب بقراءتها يقودني إلى الاعتناء بالقراءة على حساب أن القراءة وحدها لا تكفي.

الجسد

ليست اللغة جسدًا بالمعنى التصنيفي السائد الذي قدّمها بوصفها وعاءً لمعنى ما، وإنما هي جسد بما تعنيه أجسادنا نفسها. جسد يمرض ويضعف وينتعش. روحه هي إحدى تفاعلاته، وليست هي التي تحركه وتسيّره.

لنقل إن دانتي والمعري وتولستوي وطرفة بن العبد وويتمان منحوا جسد اللغة صحةً وعناية. وبالمناسبة، فقد قال ويتمان: أنا شاعر الجسد وشاعر الروح، إذ يمكن أن تحل اللغة محل الجسد ومحل الروح أينما تتبعت كلمتي الجسد والروح في سياقٍ ما، سواءً في كتب التاريخ أو في كتب الأساطير أو في كتب الأدب نفسها.

تبدو القصيدة التي أرغب بقراءتها ذات جسد متماسك ومغري بما يسمح لها أن تصنع قراءً نهمين لا قراءً متعففين. إذًا، يصح لي أن أحفر مصطلح "القصيدة المشتهاة"، التي نزعم جميعنا ونحن نقرؤها بأننا شعراء ولسنا قراءً أو نقادًا.

الغرور

ثمة ظاهرة نخبوية في الظاهر، لكنها ظاهرة سوقية في جوهرها، وهي ظاهرة الدعم التي تفشت في زمن "الترندات الفورية"، حيث يعمد شاعر، من باب أن هذا ذوقه الشخصي، إلى تقديم قصيدة بالغة الركاكة والانحطاط اللغوي، لكن قراؤه يفهمون تلقائيًا أنه يمنح تلك القصيدة تذكرة دخول أو تأشيرة.

شخصيًا أرغب بقراءة قصيدة غير مدعومة، غير مشار إليها. قصيدة أعثر عليها بينما أبحث عن شيء آخر، وقد طاب لي ذات يوم أن أقول إن القصيدة الجيدة مثل فردة الحذاء الضائعة، لن تجدها إلا في خضم بحثك عن المقراض أو عن كسارة الجوز.

دوام المحاولة

صناعة أي جهاز مريح وداعم مرَّ بتراتبية حتمية خلال محاولات صنع أجهزة بدائية. فالميكروفون البشري الأول أنجز عبر تدوير الكفين حول الفم، وصناعة جهاز الجري الماثل أمامنا جزء من تسلق الإنسان البدائي الجبال والنزول منها، وهكذا تبدو القصائد ليست إلا محاولات لمسودات غابرة تم إتلافها أو الاحتفاظ بها من باب الحنين البشري اللازم.

القصيدة التي أرغب بها قصيدة شاعر محاول، لا قصيدة شاعر صانع يتبجح بأنه ابتكر أسلوبًا ومصنعًا ليتصرف وفق ذلك بتعالٍ. الشاعر الجيد ليس رائدًا أو ساحرًا أو نجمًا، إنّه لاعب عابث يستمتع بإلقاء حجرة كل مرة في البركة نفسها.

في الظلام البهيم تُحدث الحجارة أثرًا في البركة أكثر مما تصنعه النجمة الراسخة.

الإيقاع

لسنا جنودًا في وضع استعداد، إننا قراء منعزلون في قارة تضجُّ بالأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى، ومن ذلك المنطلق فإن مفردة إيقاع لم تعد تشكل أي معيار عندي، سواءً كان الإيقاع شكليًا في بنية القصيدة، أو داخليًا كما حاول شعراء قصيدة النثر البدائيين ترسيخه.

أرغب بقراءة قصائد دون إيقاع، قصائد أشد إنسانية حيث إن المسيرة الإنسانية نفسها تتحلى بروح المغامرة، ومحاربة الطواحين، والقيود خَفيةً كانت أو واضحةً للعيان.

الجوهر

في مدونة الأدب العالمي الكبرى لن تجد إلا قصيدتين يمكن تسمية إحداهما بالقصيدة الجوهرية، والقصيدة الأخرى بالقصيدة المعاصرة. مدى اقتراب القصيدة من جوهر الشعر الإنساني، كنشاط لغوي ضروري وأبدي، هو ما يجعلها تستحق الخلود والثناء، فننعم معها بالدفء والحيرة والخيبة.

ما الذي ينبغي أن يقرأه المرء من شعر؟ وما الذي نحققه من مكاسب على المستوى الشخصي بفعل نصٍ شعريٍ ما؟

أما القصيدة المعاصرة، فهي قصيدة مُلتزمة بالحفاظ على شكل ما أو بمواكبة زمن ما. القصيدة الموزونة قصيدة معاصرة لأنها تريد الحفاظ على روح عصر ما، كأن يكون ذلك العصر هو عصر الشعر الذهبي ولكنه عصر غابر. أما قصيدة النثر ذات الوعي الخاص، فهي تكافح من أجل جوهر الشعر العابر للأشكال والأزمنة أيًا كانت ضغوطاتها وظلالها.

كلي رغبة بقراءة القصيدة التي تحمل الجوهر وتكونهُ، لا تلك التي تخبئه أو تزعم أنها تفعل ذلك خلف المحسنات والقوالب والرموز المكرورة.

قد تكون هذه الوصفة العجيبة مجرد كلام عابر، وقد تكون في صلب عملية البحث عن القصيدة ومكنونها.