03-نوفمبر-2022
عمل فني لـ محمد بن الأمين/ ليبيا

عمل فني لـ محمد بن الأمين/ ليبيا

في مشهد من الفيلم الهوليوودي "طروادة" يأتي فتى بأمر من القائد أغاممنون لدعوة البطل آخيل إلى نزال محارب جبّار. حين يوصل ذلك الرسول رسالته يضيف، من عنده، تحذيرًا ليحاول ردعه بعبارة يائسة: "لو كنتُ مكانك لما ذهبت". يُلقي آخيل إليه نظرة ازدراء، وقبل أن يمضي يقول: "من أجل هذا لن يذكر اسمك أحد".

يضع هذا المشهد، كما تفعل الملاحم القديمة كلّها، الاسم بموازاة الخلود، ففي النهاية يمضي البشر ولا يبقى من أثرٍ غير الأسماء، بعضها لتمثيله الخير، وبعضها لتمثيله الشرّ، لكن أكثرها لا يجد مصيرًا غير مكبّ النسيان، وكأنها هي وأصحابها لم تكن أصلًا!!

وبمقابل اهتمام اللغة العربية بربط الاسم بالمعنى نجد أن اللغات الأخرى حرّرت الأسماء من معانيها، فبات الاسم في كثير من الأحيان خاليًا من أية حمولة دلالية، بالشكل الذي يجعلك تشعر أنه موجود ليدل على مسمّاه وحسب

مع ذلك، تبقى الأسماء أسرارًا إلى درجة أننا لا نكف عن استعادة سؤال شكسبير في "روميو وجولييت": "ماذا في الاسم؟". أيّ لغز ذاك الذي تحمله هذه الكلمات لنطابق بين حروفها وشخص، ولتحلّ محلّه.

حقًّا.. ماذا في الاسم؟

فيروز تقول (والقصيدة لجوزيف حرب): "عينينا هني أسامينا". المعجم يفيض بأسماء تصلح للمواليد، مع معانيها القديمة والجديدة. وبمقابل اهتمام اللغة العربية بربط الاسم بالمعنى نجد أن اللغات الأخرى حرّرت الأسماء من معانيها، فبات الاسم في كثير من الأحيان خاليًا من أية حمولة دلالية، بالشكل الذي يجعلك تشعر أنه موجود ليدل على مسمّاه وحسب.

من أكثر الأعمال الأدبية التي تلعب فيها الأسماء وظيفة دلالية هي رواية "مائة عام من العزلة"، حيث تتكرر أسماء الجيل السابق في الجيل اللاحق دومًا، لدرجة أن الأمر يغدو متاهة، يقول ماركيز في الرواية: "أما أورسولا فلم تستطع مواراة إحساس غامض بالقلق، ففي تاريخ العائلة الطويل، أتاح لها تكرار الأسماء اللجوج استخلاص نتائج بدت لها قاطعة. فبينما كان من يدعون أوريليانو منغلقين على أنفسهم ولكنهم ثاقبوا الفكر، كان من يدعون خوسيه أركاديو نزقين وجسورين، ولكنهم موسومون بسمة مأساوية".

يحيلنا هذا المقطع الماركيزي إلى أنّ إشارات القدر تتجلى في أسماء العلم، ففي الوقت الذي لا يختار فيه الإنسان اسمه وأهله ودينه، فلن يختار قدره. ومن طرائف "مائة عام من العزلة" أن سكّان قرية ماكوندو قد أصيبوا بداء غريب هو نسيان أسماء الأشياء، لذا راحوا يكتبون على قصاصات ورق الأسماء المنسية ويلصقونها عليها.

لكن أغرب الأعمال الأدبية في هذا المجال هي رواية "كل الأسماء" للبرتغالي جوزيه ساراماغو التي يستهلها بقوله: "أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، ولكنك لا تعرف الاسم الذي لك". في هذه الرواية التي يشكل أرشيف السجل المدني مكانها الرئيسي، حيث تجتمع أسماء كل أهالي البلد لا نعثر على اسم أي شخصية باستثناء الشخصية الرئيسية التي يمنحها الكاتب إمعانًا في التضليل اسمه: جوزيه. أما تبقى من شخصيات فبلا أسماء، إلا صفات عامة كمدير المدرسة، المرأة المجهولة.. إلخ. الابتعاد عن الاسم واللقب والكنية محاولة في الوصول إلى عمق ما هو أنت! وكيف أنت! ومن أنت! فالأسماء مجرّد أقنعة زائفة، تموّه الشخص أكثر مما تفصح عنه.

غيّر أدونيس اسمه كإعلان عن الذات، ولاحقًا عبّر عن هذا بعنوان وضعه على أحد دواوينه "هذا هو اسمي". كذلك هو الشاعر اليوناني سيفريس الذي اشتق اسمه من كلمة "سفر" العربية، وأيضًا لدينا الإشكالية الوجودية العميقة التي عاشها الشاعر الراحل أمجد ناصر بعدما غيّر اسمه الأصليّ لضرورات التخفي السياسية، لكنه بعد زوال الأسباب واجه مشكلة بين اسميه، الأول يحيى النعيمي المرتبط بالمكان الأول، والثاني أمجد ناصر المرتبط بأمكنة كثيرة، حتى بات لا يعرف أيهما هو! وأزعم أن الذي مات هو يحيى النعيمي، الشخص الحقيقي، أما أمجد ناصر ناصر، الشاعر والكاتب، فلا يزال حيًّا.

يستهل جوزيه ساراماغو روايته  "كل الأسماء" بقوله: "أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، ولكنك لا تعرف الاسم الذي لك"

 

ولو أردنا الاستفاضة لرأينا أنّ السكان الأصليين للأمريكيتيين، الذين يُسمّون زورًا بـ"الهنود الحمر"، يتسمّون بحسب الأعمال والأفعال، كما أنهم يُسمون موتاهم بأسماء أخرى.

في كتاب "المجتمع الشبكي" لـ دارن بارني، ترد أفكار مثيرة حول الأسماء، إذ رأى المؤلف أن تسمية شيء ما هي إلا تعبير عن السيادة عليه، وجعله حقيقة عامة. ومن أقواله في ذلك: "عندما نسمّي طفلًا فإننا نختار اسمًا نأمل أن يكبر الطفل ليغدو عليه، ومع الوقت يصبح من المستحيل علينا أن نتخيّلَ الطفل حاملًا اسمًا آخر. ففي البداية نأمل أن يصبح الاسمُ الطفلَ، وفي آخر المطاف يصبح الطفلُ اسمَهُ، فالأسماء لا تكتفي بمجرد الوصف، بل تفرض بعض الأوصاف أيضًا، ويمكننا القول أيضًا إنَّ للأسماء جانبًا أدائيًّا: فهي ليست مجرد وصمة، بل لها وظائف عملية أيضًا".

مع هذا وذلك سنظل نسأل، مثل شكسبير، ماذا في الاسم؟!