31-أكتوبر-2019

أمجد ناصر (ألترا صوت)

أوّلَ مرة قرأتُ فيها اسم الشاعر أمجد ناصر كانت في عددٍ قديم من مجلة "الحرية" الفلسطينية. ظهر الاسم مع قصيدةٍ سوف تستمرّ في الحضور معي في الوقت اللاحق. إنها قصيدة "عجلون" التي قرأتها فيما بعد في ديوانه "رعاة العزلة" بوصفها قصيدة حبّ. لكن في زمن الفتوّة المدموغ بختم النقصان في الوعي والتجربة، بما يكفي ليجعل من الشِّعر طلسمًا يحتاج إلى شرحٍ وشرّاح، فهمتُ أن القصيدة عن مكانٍ بسبب العنوان الذي أسمعه دومًا في بثّ التلفزيون الأردني الذي يصل بيتنا.

لعل هذا اللافهم، أو الفهم الناقص هو ما يجعل الشعر لغزًّا جديرًا بإنفاق النهارات والليالي في محاولة كشفه

لعل هذا اللافهم، أو الفهم الناقص، أعني الغموض المترامي الأطراف الذي تلقي بنا فيه القصائد زمن النشأة، هو ما يجعل الشعر لغزًّا جديرًا بإنفاق النهارات والليالي في محاولة كشفه.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات أمجد ناصر: لم أكن أعرف أن الأمل أزهق أرواحًا بهذه الكثرة

بعد وقتٍ ليس سهلًا في ملاحقة قصائده، أواخرَ حقبة التسعينيات التي طمست آفاقها حرب الخليج وبداياتِ الألفية الثالثة التي قصّت شريطها حربُ الإرهاب، في الصحف والمجلات القديمة، سواء تلك التي نشر فيها أو كتبت عنه، حصلت على بعضٍ من شعره لمامًا، كثير منه مقاطع وردت كشواهد في المقالات.

على هذا النحو، وقعت في فخاخ أمجد ناصر.

لا أعرف لماذا يأخذنا الشعر في هذه الدروب الوعرة، ولا أعرف لماذا تغرينا العبارات والمقاطع الغامضة مطلع شبابنا، لنقضي الوقت المتبقي نقتفي آثارها ونلملم أشلاءها!

توقّف هذا التيه حين منحني الشاعر السوري لقمان ديركي كتابين عملاقين لأمجد، الأول هو "الأعمال الشعرية" بطبعة "المؤسسة العربية للدراسات"، والثاني "تحت أكثر من سماء" نصوص رحلاته في سفر ضخم أصدره "المجمع الثقافي في أبو ظبي". آنذاك فقط عرفتُ أمجد عن كثب، وعرفت أيضًا خط يده الرديء في الإهداء الذي أحفظه عن ظهر قلب: "إلى لقمان ديركي.. ابن الحياة غير الضّال".

بعد سنواتٍ، كتبت إليه إيميلًا بغرض نشر بعض القصائد في "القدس العربي"، التي كانت ممنوعة في سوريا ولا تزال، وفاجأني بترحابه في الوقت الذي أهمل محرّرون في صحف أخرى رسائلي، لكنه خاطبني باسم "رياض" بدلًا من اسمي. كتبت له: "أتريد توريطي بلعنة الاسمين مثلك؟".

منذ ذلك بقينا نتواصل إلى أن جمعتنا الحظوظ في مهرجان عام 2017 في برلين. جاء أمجد من بيروت التي كثر تردّده إليها منذ انتقال ابنه أنس للعمل فيها. تذكّرنا تلك الرسالة وغيرها، وأذهلني بمعرفته الواسعة والتفصيلية للحياة الثقافية السورية، قبل الثورة وبعدها على السواء، وتلاشت المفاجأة حين أدلى بمعلومات مماثلة تشي بالاطلاع ذاته تجاه الأوساط الثقافية في السعودية أمام زميلنا في المهرجان الشاعر أحمد الملا. الأمر الذي يعني أنه رادار صحافي نشطٌ يلتقط أحوال الكتّاب والفنانين في مختلف الأوساط الثقافية.

ديسمبرُ برلين أعيادٌ وبرد. نسينا ذلك كله ورحنا ندخن ونتحدّث عن الكتب. توقّف طويلًا عند "ألف ليلة وليلة" مسهبًا في اكتشافه نزوعًا علمانيًّا في الكتاب الشهير الذي لم ينطبعْ بطابع إسلامي، بل ظل البعد الديني فيه غائبًا أو متواريًا، أما الوعظ فيه فأخلاقي يتناول الوفاء والخيانة وغيرها، لا الكفر والإيمان. قلتُ له إن الباحث والناقد العراقي محسن مهدي حقّق نسخة غير مسبوقة من الكتاب الشهير، قضى في العمل عليها قرابة خمس عشرة سنة، أسماها "ألف ليلة وليلة من أصولها العربية"، ورأى أن شهرزاد امرأة وثنية، تعيش في بلد وثني، في زمن وثني، خارج إطار الأديان السماوية، ولهذا حين تزعم أنها تتحدّث عن أحداث ماضية فإنها في الحقيقة تتحدّث عن أحداث مستقبلية.

أمجد ناصر: "قضيتُ حياتي أتحدث عن قصيدة الكتلة وحصلت على كتلة في الرأس"

عندما عاد أثار نقاشًا على فيسبوكه حول الليالي، ثم لخّص أفكاره في مقال عنوانه: "لماذا ألف ليلة وليلة ليست رواية؟".

اقرأ/ي أيضًا: رحيل أمجد ناصر.. مرتقى أنفاس الشاعر

في جلسةٍ مرحةٍ، في مطعم سوري في الحي العربي من برلين، لا أدري أية حماقة تلك التي دفعتني لآتي على ذكر قصيدته "حديث عادي عن السرطان"، المنشورة في ديوانه الاستثنائي في الشعر العربي "حياة كسرد متقطّع". بالحماقة ذاتها التي فتحت بها الحديث علّقت: "يبدو أنك نجوت من احتمال الإصابة بالسرطان الذي تورده القصيدة". نظرَ نظرة من يطرد تهمةً وقال: "لا. أعد القراءة وستعرف أنك مخطئ".

تروي القصيدة حديثًا شاحبًا بين صديقين، أمجد والمصور صالح العزاز الذي حمل الإهداء اسمه. يقول الصديق للشاعر إن أخاه مات بالسرطان في الأربعين من العمر، ويقول أمجد إن السرطان هاجم أمه مرتين، في الأولى كانت بحدود الخمسين من العمر فأمهلها عشر سنوات، وفي الثانية لم تأخذ سوى بضعة شهور.

فهمتُ الخطأ. فهمت أنه بطريقة غامضة، كحاله في ملاحقة العلامات، يعرف شكل مصيره. ألا تقول القصيدة بوضوح وصراحة: "قرأتُ لا أدري أين أن الإنسان يموت كما يموت أهله"؟

القصيدة موقعة في خريف 2001، أي في وقت بلوغه الـ 46 من العمر، أي أن الموت على طريقة الأم سيكون سيناريو مفتوح الاحتمال ابتداءً من أربع سنوات لاحقة على ذلك التاريخ. لكن القصيدة التي تنتهي بالإشارة إلى تنبؤ الشعراء بموتهم، خصوصًا نبوءة الشاعر البيروفي سيزار فاليخو الذي مات كما توقّع في باريس في يوم ماطر، تقول: "وأنا أتوقّع في هذه القصيدة التي أكتبها، الآن، أن أموت بلندن في يوم ماطر (يوم ماطر في لندن؟ يا لها من نبوءة!) موصيًّا منذ اللحظة أن أُدفن في المفرق قرب أمي التي ماتت وهي مقتنعة أنه لن يضمنا حيّز واحد ذات يوم. فالجميع يعلم أنها ستذهب إلى الجنة".

غاب طويلًا لنعرف أنه أصيب بسرطان الدماغ، وأنه أوان النبوءة التي أطلقها.

أيام طويلة من الرعب والخوف لا يجيب فيها على هاتفه أو رسائله. أسأل عنه الأصدقاء في لندن وأحصل على قصة مروّعة. قبل ست سنوات من مرضه تبرع لزوجته هند بكليته بعدما أصيبت بالفشل الكلوي، ثم تبيّن أن كليتها الوحيدة المأخوذة منه مسرطنة. طلبوا منه فحصًا فوجدوا كتلة سرطانية في رأسه. قال في رسالة صوتية: "السرطان يأكل رأسي يا ابن العم"، ثم تبعها برسالة أخرى متهكمة: "قضيتُ حياتي أتحدث عن قصيدة الكتلة وحصلت على كتلة في الرأس".

 العزلة التي نعثر عليها في شعر أمجد ناصر ليست سوى تعبير عن غربته بين ماضٍ بدويّ لا يُعاد، وحاضر متروبوليّ لا يُعاش

حاولتُ الحصول على تأشيرة إلى بريطانيا. ملأتُ قرابة الخمسين صفحةً من صفحات المعلومات المطلوبة، تلك التي تستحق بريطانيا عليها الطرد خارج الكوكب، لأجل أن يُرفض طلبي.

اقرأ/ي أيضًا:  أمجد ناصر.. أسرارُ الملحمة المعاصرة

يغيب أمجد كثيرًا بعد الجرعة الكيماوية، ورغم أنه يعود منهكًا إلا أنه يظل مصمّمًا على العمل. يريد إصدار القصائد التي كتبها خلال سنوات توقفه عن النشر، ويريد إعادة طباعة أعماله القديمة. عملت معه على تجهيز بعضها. جمعنا مقالاته وحواراته التي استطعنا الوصول إليها، وستصدرها وزارة الثقافة الأردنية. أصدر قصيدته – الديوان "مملكة آدم" عن "منشورات المتوسط"، وعمل على تنقيح رحلاته.

بهذه الطريقة، دخل سباقه مع الموت، وأظنه لم يستسلم إلا حين شعر أنه أنهى ما يجب إنهاؤه، تاركًا ما تبقى للباحثين والنقّاد والقرّاء.

في خريف 2018، كنت مع نيكول -زوجتي- في باص يعبر الأراضي الأندلسية، بمحاذاة المحيط الأطلسي، بين مدينتي قادس والجزيرة الخضراء، رنّت مكالمة فيديو في الواتساب وظهر أمجد على الشاشة. سألنا عن مكاننا. قلت الأندلس. طلب وضع الكاميرا على شبّاك الباص ورافقنا الرحلة.

أمجد موسوعة تاريخية وأدبية في الأندلس. أليس من خصّص ديوانًا كاملًا لبس فيه قناع أبي عبد الله الصغير وروى وداع غرناطة، في "مرتقى الأنفاس"؟ أباح لنا الكلام، ولا أزال أذكر جملة ذهبية مما قاله: "المكان الوحيد الذي تشعر إنك كنت فيه من قبل، أو أن شخصك الآخر كان فيه من قبل، هو الأندلس".

يئس منه أطباء لندن. كتب نص "قناع المحارب.. يوميات مريض بالسرطان" أدنى به صفحات السوشيال ميديا. قرّر الذهاب إلى الأردن ليجرّب حظه مع برنامج علاجي جديد. أعرف، كما يعرف، أن البرنامج ذريعة للعودة إلى المرابع الأولى، وإلى ربعه الأولين، لأجل شيء واحد لا غير: أن يموت هناك.

أعفى نفسه من النبوءة الساخرة عن الموت في لندن، في قصيدته السالفة الذكر "حديث عادي عن السرطان"، ومنح نفسه الفرصة الأخيرة، والأكيدة، لكي يُدفن إلى جوار أمه.

أوقنُ أنه فكّر بكل ذلك رغم أنه لم يصرّح بحرف منه، فرجل مثله يرغمه كبرياؤه البدوي على خياراته لن يفعل إلا ما يمليه عليه قلبه.

أعطاه الموت فرصة لا بأس بها، صحيح أن حاله ساء، لكنه اطمئن إلى أنّه في المكان الصواب أخيرًا، فالحالم الذي هرب من اسمه الأول، ومن بيت أهله، ملتحقًا بيوتوبيا الشعر والثورة الفلسطينية، رماه مصيره من منفى إلى آخر، لم يكن له من حصن سوى العزلة التي اتخذها مذهبًا. العزلة التي نعثر عليها في شعره ليست سوى تعبير عن غربته بين ماضٍ بدويّ لا يُعاد، وحاضر متروبوليّ لا يُعاش.

هل نهرب إلى الحياة من بيوت الأهل، وحين تلوح تباشير الموت نهرع إليها لمواجهة المصير؟

هل بيوتنا الأولى أفضل الأمكنة للموت؟ هل يمكن التعديل على بيت أبي تمام الشهير: "كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزل" كي يلقى حتفه فيه؟ هل نهرب إلى الحياة من بيوت الأهل، وحين تلوح تباشير الموت نهرع إليها لمواجهة المصير؟

اقرأ/ي أيضًا: أمجد ناصر.. أكثر من شاعر وأبعد من تجربة شعرية

يقول لنا شعر أمجد إنه لم يغادر مكانه الأول، ولم يبرح مطارحه إلا لمامًا، على الرغم من كل ما توحي به سيرته من انشقاق. أزعم أنَّ شعوره بالذنب تجاه المكان الأردني جعله راسخًا في أعماله الأولى، ومستعادًا على الدوام في أعماله المتأخرة. عودة أمجد أنهت الخصومة بين الذات والمكان، ووضعت النقاط فوق حروف المعنى الضائع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"مملكة آدم" لأمجد ناصر.. رسالة اللّاغفران

أمجد ناصر في "هنا الوردة".. مساءلة التغيير