25-أبريل-2021

غرافيتي في إيطاليا

في يومه الجامعي الأول في صف الماجستير في جامعة تكساس في أوستن، أصابت القشعريرة الطالب عمر حلّاج وهو يرى البروفيسور هارولد بوكس عميد كلية العمارة يدخل بكامل معرفته وخبرته وشهرته ليعطي بنفسه الدرس الأول. شعر الطالب السوري أن الشغف والحماس اللذين حملهما معه من باريس (حيث أنهى للتو مرحلته الجامعية الأولى) ليسا كافيين لتلقي جرعة العلم الهائلة من هذا الاستاذ الكبير.

خططت منظمات كبرى لحماية الآثار، والتوعية بمسؤولية أبناء المجتمعات المحلية عنها، ولكن نصف آثار تلك البلدان صارت في حوزة المافيات

على مدى ساعتين، تحدّث الأستاذ بوكس بكلام عام، فيه بعض التعليمات الإدارية والتنظيمية، وبضع نصائح وعظية شائعة، ونثرات عشوائية من خبرته المديدة في فن العمارة. بشكل أو بآخر كانت المحاضرة محبطة، وأقل بكثير مما توقعه طلاب دراسات عليا جاؤوا من كل أنحاء العالم.

اقرأ/ي أيضًا: عن الفنون في زمن ناطحات السّحاب

بعد اثنين وعشرين عامًا من تلك المحاضرة، كنت وصديقي الحلاج جالسين في مقهى في دمشق، وكانت المؤشرات هناك في ذلك الوقت من نهايات العام 2011 قد بدأت تعطي إشارات أنّها ستأخذ شكل حرب حقيقية، وكانت منظمات ومؤسسات دولية قد بدأت بالتحرّك لتتخذ لنفسها مواقع في الخارطة السورية وامتداداتها. وفيما كنا نتبادل معلومات أقرب للثرثرة والنميمة من قبيل: "وما علاقة فلان بالدعم النفسي؟ ومن أين لفلانة أن تقدّم مساعدات طبية؟ ولكنّها لا تعرف ما معنى التماسك المجتمعي. وألم يجدوا أفضل منه ليمثلهم هنا؟" عادت تلك المحاضرة الباهتة إلى ذاكرته، وروى لي ما فهم للتو أنّه أهمّ ما فيها.

فمن بين نصائحه البسيطة والكثيرة، طلب الأستاذ من طلاب يريدون أن يصبحوا معماريين كبار أن يحملوا في جيبهم شيئين بشكل دائم: مازورة قياس ومفتاح نبيذ. شرح لهم أن عليهم استخدام المازورة طيلة الوقت، وقياس أبعاد فنجان القهوة والطاولة وحافة النافذة وكل شيء يصادفونه، لأنها مع الوقت ستدرب عقولهم على حُسن تقدير الأطوال، وتناسب الأبعاد، وتمنحهم في النهاية مهارة تحويل مخيلتهم الفنية لمقاييس واقعية. انتقل الأستاذ لموضوعات أخرى، قبل أن تعيده أسئلة الطلاب إلى الشيء الآخر الذي نسيه. ابتسم وقال لهم: كل ما ستتعلمونه هدفه أن تصنعوا تصاميم جميلة للزبائن. ولكن كيف ستحصلون على زبائن دون مفتاح النبيذ؟

شرح قليلًا عن أهمية العلاقات العامة، وتملّق الزبائن، وبناء علاقات شخصية ودودة معهم، ودعوتهم باستمرار، وتشارك الطعام والشراب والضحك معهم، ثم أضاف جملة صادمة: هل تظنون أنكم ستحظون بالفرص لأنكم أذكياء وموهوبون وبارعون؟ وأن الأثرياء سينفقون ملايين الدولارات لتنفيذ رؤاكم لأنكم تعتقدونها عبقرية؟

اليوم وبعد عشر سنوات على وصولي لتلك الملاحظة، ومتابعتي المتقطّعة لآلاف المبادرات والمشاريع الثقافية والتنموية والفنية والمجتمعية في دول المنطقة، لا سيما الدول الملتهبة (سوريا، العراق، اليمن، لبنان، ليبيا) ومعرفتي بإنفاق مليارات الدولارات على هذه المشاريع، مع استمرار البنى الاجتماعية والثقافية بالتردي، لا يمكنني تفسير هذا الهدر سوى بحكاية البروفيسور بوكس، تحديدًا بجزء منها.

فعلى ما يبدو أن معظم القائمين على تنفيذ هذه المشاريع، من كوادر تلك المنظمات ومن الشركاء المحليين، نفّذوا الشق الثاني منها فقط، حملوا مفتاح نبيذ، وأعفوا أنفسهم حتى من التدريب قليلًا بمازورة القياس، واكتفوا بفتح زجاجات النبيذ لممثلي الجهات المانحة، والذين لا يريدون في النهاية سوى إعداد تقريرهم السنوي بشكل مرضٍ لإدارتهم، ووضع علامة "تم" على كامل بنود الخطة المقررة، ولا يهم إذًا ما حققته هذه المشاريع من النتائج فعليًا.

ولدت المجتمعات البشرية في هذه البقعة من العالم بوقت مبكر للغاية، حتى قبل اختراع الكتابة بزمن طويل، ولدت برصيد كبير منحته الطبيعة، وهي تنفق منه بسفه منذ ذلك الوقت

بسبب هذه الآلية أنفقت مئات الملايين على آلاف مبادرات السلام في دول لا يملّ أهلها من بقْرِ بطون بعضهم البعض، ومئات أخرى للدعم النفسي في مجتمعات ينتحر أبناؤها في سن الثامنة عشرة، ومليارات على التعليم وتعويض التعليم فيما تتصاعد معدلات الأمية بشكل مرعب، وتعيد دولًا مثل سوريا والعراق لما كانت عليه قبل قرن.

اقرأ/ي أيضًا: سرّ أبي

المنظمات الثقافية الدولية ـ وعلى رأسها اليونسكو ـ موّلت وخطّطت مشاريع كبرى لحماية الآثار، والتوعية بمسؤولية أبناء المجتمعات المحلية عن الآثار المجاورة لبلداتهم، وتوثيق التراث المادي للشعوب، ولكن نصف الآثار اليمنية والعراقية والسورية صارت في قصور المافيات وخزائن المهربين، وتجرى لها مزادات على منصات مغلقة على الإنترنت، فيما تم تشويه وتحطيم ما تبقى بفتاوى متشدّدة أو لمجرد الغضب والرعونة.

نصف الأطفال الذين ولدوا في العقد الأخير غير مسجلين في القيود الرسمية، رغم الضجيج الذي تحدثه البرامج والمشاريع القانونية التي ترعاها منظمات الطفولة والمجتمع، الذائقة العامة في المنطقة تجد نفسها متماهية تمامًا مع مطربي المهرجانات الذين يغنون للحشيش، فيما تطْلَق مشاريع لحماية التراث اللامادي، بميزانيات لا يفوقها إلا تلك التي تُنفق على التماسك المجتمعي في أماكن يختلف الناس فيها على مكونات طبق الحساء "الوطني"، وربما يصلون لتخوين وإهدار دم من يقترح استعادة الاسم القديم لقريته.

ولدت المجتمعات البشرية في هذه البقعة من العالم بوقت مبكر للغاية، حتى قبل اختراع الكتابة بزمن طويل، ولدت برصيد كبير منحته الطبيعة، وهي تنفق منه بسفه منذ ذلك الوقت، وها هي الآن تهدر فرصتها الأخيرة. وكأنها أب مؤمن ضبط زجاجة غريبة في خزانة ابنه الشاب، فظنّها نبيذًا، واستعان بمنظمات دولية وبناشطين محليين، استخدموا الشيء الوحيد الذي يملكونه ويحملونه في جيوبهم، فتحوا له الزجاجة، أخذوا أجرهم. أداروا ظهرهم باتجاه مبادرة جديدة، وتركوا الأب الغاضب ليسكب الزجاجة في حفرة الصرف. والعياذ بالله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كلهم على حق

التاريخ كما يكتبه المهزومون