16-أغسطس-2017

جولان حاجي (فيسبوك)

إنّ الفاصل الحقيقيّ في الحداثة الشعريةّ كان في التّساؤل البودليري: ما جدوى أنْ نكتب شعر الحملان لعالم مستذئب؟ وهكذا كلّما طالت مخالب وأنياب العالم ارتفع احتجاج الشّعر وزاد تحريضه على رفض مشاريع تدجين الإنسان وتسليع أحلامه، والعدوى البودليريّة وصلت القصيدة العربية التي كانت تنام في مهدها الرومانسي الذي نحته جماعة أبولو والقصيدة العربيّة الكلاسيكية المطلّة من برجها المحصّن، فكانت شرارات الحداثة الشعرية العربيّة الأولى مع المتأسطرين، ونقصد هنا السياب وحاوي وعبد الصبور.. ثمّ تضخّم صوتها وتكثّفت أسئلتها مع جماعة شعر، وكان الانفجار المدويّ في مجموعة "لن" لأنسي الحاج.

تساءل بودلير مرةً: ما جدوى أنْ نكتب شعر الحملان لعالم مستذئب؟

يعتبر كتاب "ميزان الأذى" (منشورات المتوسط، 2017) للشاعر السوري جولان حاجي أحد الأبناء المشاغبين لكتاب "لن"، فقد ورث عنه قسماته القاسية وأصواته المحتجّة، إلاّ أنّه اختلف عنه في أشياء كثيرة، ففي حين ذهب الكتاب الجدُّ إلى تشظية العالم وتحطيمة، فالمسألة انعكست في كتاب "ميزان الأذى" الذي يقوم بوظيفة بناء ما تحطّم من العالم وإعادة ترميمه لكن بأسلوب مختلف تمامًا، وهو يتّكئ على الأمثولات الأسطوريّة في السّرديات القديمة، فيعود إلى جريمة القتل الانسانية الأولى، ويقترح قتل فكرة الغراب، يقول الشاعر: "لنقْتل فكرة الغراب، قتلنا الغراب، مدرّب الإنسان على الدّفن، ملقّنه الأسرار والسّرقاتِ، معلّمه الالتفات كاللّصوص إلى البريق، أوّل المدفونين في ترحّلنا".

اقرأ/ي أيضًا: أندريس نيومان.. شعر يملأ فراغ الحاضر

اقتراح الشاعر هو: الموت بلا قبور، بلا شواهد تدمغ ذاكرة الأحياء، ويقترح فكرة بديلة عن الموت هي فكرة "الاختفاء"، إنها الطّريقة الوحيدة التي تظلّ مفتوحة على الأبديّة، لا موت إذن عند جولان حاجي رغم كلّ هذا الدّم والخراب والفراغ الذي كان يزنه بميزان الأذى.

في قصيدة "اختفاءات" والتي يذكر في هوامش الكتاب أنها كُتبت في سوريا ربيع وصيف 2011، إثر اعتقال الأشخاص الذين عُنونت المقاطع بأسمائهم، أو إثر انقطاع أخبارهم لأسباب شتّى، يؤرّخ الشاعر جولان حاجي للمحنة السّوريّة من خلال الإنسان، متتبّعًا أسباب اختفائه بين السجون والمنافي والمقابر.. يقول جولان حاجي: "أنت الآن واقف مثل تلك المرأة، والأدراج مصفوفة بين ضلوعك، خاوية خفيفة تُسحب أو تُغلق من دون صوت، تُذكّر المتفرّجين بطعناتٍ أسالت دماءَ المصْلوبين، لكنها في حالتك تترك ما تتركه عضّات الأطفال في معاصم مختطفيهم". يعيدنا هذا المقطع إلى مسارح الدّم في روما، لا شيء تغيّر سوى أنّ مدارج "الكولسيوم" امتدّت أكثر لتتّسع لأكثر من خمسة مليارات متفرّج على عروض الدم، أمّا الحيوانات التي كان يجلبها الأباطرة الرومانيون من غابات أفريقيا فإنها حلّت في الأجساد البشرية التي درّبتها الأنظمة الاستبداديّة الجديدة في العالم، وإن أضفنا إلى ذلك المؤثّرات الصوتيّة المرعبة التي تخرج من أفواه المدافع ومن أجنحة الطائرات فإنّ المشاهد ستكون أكثر رعبا ممّا شهدته حلباتُ المصارعة الرّومانيّة.

قصيدة جولان حاجي تطرح الأسئلة ولا تدّعي الإجابات، هي لا تنظر إلى العالم بنظرة الحكمة التي تطلّ من الأعالي، إنما هي نظرة قلقة ومندهشة ومتفاعلة مع الأشياء، نظرة من يحاول أن يفهم، يقول في قصيدة "جنديّ في مصحّ": "فبأيّ قميص سأواري هذا الميّت الذي يتسلّق ساقيّ، وما الفرق بين اسمي وهذا الخدش اليابس بين وجهي ومبصقة المسلولين، وأنا أشعّ بما أنسى وأحيا بما أميت، ولا أخاف ألا أُفهم بل أخاف ألاّ أُحبّ، إذا تسلّلت كاللصّ إلى منزل الكلمات، حيث كلّ ما أكتبه تهمة تنقلب ضدّي وتتوعّدني، حيث كلّ من يقرؤني يقتلني، ويقول: أما لهذا اللّغو من نهاية؟". هذا المقطع الملغّم بالأسئلة يذكّرنا بجملةٍ لغسان كنفاني يقول ما في معناها الأفكار النبيلة لا يحتاج فهمها إلى المنطق وإنما يحتاج إلى الإحساس. وهذا ما يفعله الشاعر، إنه يهتك المنطق ويستفزّه ويفضح عجزه عن الإحاطة بفهم أسرار العالم.

يهتك جولان حاجي المنطق ويستفزّه ويفضح عجزه عن الإحاطة بفهم أسرار العالم

كتاب "ميزان الأذى" للشاعر جولان حاجي يمثّل تجربة في الكتابة الخالصة من عوالق اللّغة الشّفهية، هي نصوص تخوض في أعماق الذّات الإنسانيّة بمجهر السّورياليّين الأزرق، الذي حمله بيكاسو ليفهم في الصورة أشياء أخرى غير الألوان، وحمله بروتون ليفهم في الكلمة أشياء أخرى غير المعاني. بهاجس البحث عن المعاني بين المتضادّات يصنع لنا الشاعرُ متاهاتٍ لغويّة لا قرار لها تقوم على الخداع الدّلاليّ، في النهاية ستخرج من النصوص بذاكرة مشوّشة ومرتبكة تحمل نثار صور مرّت أمامك في الحياة لكن طريقة تركيبها هو الذي يصنع دهشتك، يقول الشاعر: "رأيناه في البعيد عاريًا، وحين وصل إلى مقربة منّا وجدناه قد اكتسى على الطريق، كيف والمدى كلّه مكشوف؟". في النهاية لن تأخذ من النّصوص سوى هذه "الكيف" الحادّة كمشرط جرّاح.

اقرأ/ي أيضًا: لا إبهامَ في "غامض مثل الحياة"

تظهر بين النصوص ظلال حيوانات غريبة وأشخاص مرضى بالوهم وبالأمراض النفسيّة التي تحيْون الإنسان مثل مرض "البوانثروبي" الذي أصاب الملك البابلي نبوخذ نصر والذي جعله يتخيّل نفسه بقرة، أو بالمستذئبين والمتوحّدين.. وافتتان الشاعر بالعالم الحيوانيّ في كتابه هذا، لم يكن ضربًا من الأمثولات على طريقة السرديات القديمة، وإنما فرضه اشتغاله على الخيط الفاصل بين الإنسان والحيوان، فعل يشبه المختبر البافلوفي الذي فتحه الشاعر بين نصوص كتابه، فعل مقاوم لمشاريع حيْونة الإنسان، وهذه هي وظيفة الشعر الحقيقيّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عماد أبو صالح.. الشعر في المزبلة

مهيب البرغوثي.. ماذا في مختبر الموت؟