11-ديسمبر-2016

مهيب البرغوثي (1964)

لا أرى أنّ هناك كائنًا جديرًا بأن نصدّقه، في الكتابة عن الموت، مثل الشاعر، وتصبح هذه الجدارة مضاعفة حين يكون هذا الشاعر سليلَ مكانٍ يتذوق مفردات الموت يوميًا بحواسه كلّها، بحيث تتحوّل العلاقة بينهما من الخوف إلى التأمّل، وهو مقام وجودي يمنح النصّ الشعريّ الواعي بذاته وأدواته حقّ الانتماء إلى الشعر، فكأن الشعر لم يوجد إلا ليرصد هذا المقام.

الوحيد الجدير بالتصديق في الكتابة عن الموت هو الشاعر

في ديوان "مختبر الموت" للفلسطيني مهيب البرغوثي (1964) لم يُكتب الموت بصفته ثمرة للتأمّل عن بعد، بل بصفته ثمرة للمعايشة اليومية، فهو قابع خلف الباب ومستعد للدخول على الذات الكاتبة في أيّة لحظة، وريثما يفعل ذلك، يستغلّ وقته في الفتك بمن هم في متناوله، بحيث يتحوّل صراخهم من الدّلالة على الحياة إلى الدلالة على الموت. هذا الموت/الوغد، يحيا بقتل الآخرين.
"في الحرب
لا منتصر ولا مهزوم
الحرب تصنع منّا ألعابًا منفوخة بالهواء
بطل من يجيد نفخنا في أسرع وقت".

اقرأ/ي أيضًا: باريس، عمّان، دمشق: عن حتمل وطمّليه

لقد تعمّد الشاعر أن يعدم الفوارق بين الموت والإنسان القاتل، حتى أصبحا مترادفتين في قاموسه. هوية الفاعل من هوية فعله، ويتعدّى تعاطي الذات الكاتبة مع هذا الفعل عتبة الإدانةَ إلى عتبة التحدّي، بصفتها مظهرًا من مظاهر الانتصار للحياة، فلن يقتلَ القاتلَ أفضل من نبرة التحدّي في صوت قتيله.
"يسرقون من حياتنا ضجيجها
وأرصفتها وبعض الحب
فقط لأنّ حياتهم مملّة".

طرحت قصيدة "الشعر ولذّة الشر" هذا السّؤال: "ترى هل كانت فرجينيا وولف تزحف نحو الرّعشة الأخيرة حين حاصرها البحر؟". كان ذلك مدخلًا إلى مقاربة شعرية للحظات الموت عند ذوات الكتّاب والفنّانين والشعراء، رامبو في العتمة والبرد، وفرلين بقامته الجميلة، حيث نشوة الانتهاء لا تزال هناك خلف الباب. "إنه يتحسّس نوابع اللذة. كم تحزن على جمال هذا الجسد".

كما تدفع قصيدة "الصّباح رجل عجوز" المتلقي إلى أن يطرح هذا السّؤال: "ما الفرق بين أن تكون وحيدًا في القبر، وأن تكون وحيدًا في غرفتك/ شرفتك/ مكانك الذي لم يعد لك فيه أرواح تهتم بك؟". هنا تصبح الوحدة في الدّنيا مرادفة للوحدة في المقبرة، ويبقى الفرق الوحيد بين الميِّتَين أنَّ نزيل المقبرة يزهد في الشكوى، بالمقارنة مع نزيل "الحياة".
"الرّجل العجوز ما زال من أوّل العمر
يطلّ من شبّاكه والقهوة في يده
ويقول لوريقات الأشجار والأزهار في حديقته:
صباح الخير".

مثلما تمتدّ مخالب الموت إلى الإنسان والمكان، تمتدّ إلى الزمن أيضًا

مثلما تمتدّ مخالب الموت إلى الإنسان والمكان، تمتدّ إلى الزمن/الوقت أيضًا، فيصبح قبرًا لذوات "حيّة" تتحرّك وتتنفّس وتتألّم وتغنّي لكنها لا تعيش، فكأنها ماتت ولم تبقَ إلا أطيافها معلّقة في الفضاء. إن الأمر شبيه بالنجوم في السّماء، ما نراه هو صور لنجوم غادرت مواقعها منذ ملايين السنوات، وهذا ما يُفسّر السّلبية التي باتت تتحكّم في العالم المعاصر، بحيث أصبح أكثر أفراده نشاطًا هم عرّابو الموت.
"أيّ صباح مسالم هذا؟
لا خطيئة نعبث بمحتويات حقائبها
لا حرب نحصي قتلاها ونبكي حنينا لأطفالها
أيّ صباح مائل للبكاء هذا؟".

اقرأ/ي أيضًا: "تغريبة النار".. معاينة الأحلام المؤجلّة

إنّ الموت الذي يأخذ منّا عزيزًا يقتلنا معه أيضًا، وما عدم مرافقتنا له إلى مثواه الأبدي، إلا وقت إضافي لنا لنعاتب الحظ والرّصاصة. بحيث يصبح أكبر أحلامنا أن نلحق به، لذلك فنحن لا نهتم بصناعة ذاكرة جديدة لنا، بقدر ما نتفرّغ لاسترجاع ذاكرتنا معه. "كأرملة أصحو صباحًا، ألملم ملابسي القديمة وملابس الزّوج القتيل، وأذهب أبحث عمّن يشتري بنصف الثمن، وأعود لأمسح الغبار عن شفتي، وعن الصّورة المعلّقة في الجدار، وأبكي قليلًا، وقد ألعنه لأنه تركني وحيدة، وأحتفظ بما تبقّى من لذّة وألم لنافذة في الحنين". 

كان على الشاعر، وهو يشتغل على ثيمة الموت، أن ينتبه إلى الموت المعنوي أيضًا، فليس الموت فقط، أن نرحل/نُرحّلَ عن هذا العالم، بل أن نعيش فيه بعواطف باردة وعيون بلاستيكية أيضًا، أن تكون لحظاتنا فيه انتظارًا لأن نموت، لا استمتاعًا بأن نعيش، وهو مقام لا تختصّ به المجتمعات المحتلّة من طرف الأجانب والمقهورة من طرف أنظمة فاسدة فقط، بل بات مهيمنًا على الكوكب كلّه، بفعل الرّوح الاستهلاكية المستنزفة.
"يسرقون من الجنس الدّقائق الأولى
ودون لذة كأنه الواجب المدرسي
فقط لأنهم كذبوا على زوجاتهم
بأن الحبّ يأتي بعد الزواج".

اقرأ/ي أيضًا:

صادق جلال العظم.. تفكيك الحب

رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل