14-أكتوبر-2019

هيلين كيلر وطه حسين في القاهرة 1952 في القاهرة (Getty)

مسلحًا بالمنهج الديكارتي الذي يتخذ من "الشّكّ" بالظواهر وبما يظهر على أنه حقائق طريقة في التفكير والبحث والبرهان، دخل طه حسين في أكثر مفاخر الثقافة العربية منذ تكونها الأول، وهي هنا الشعر الجاهلي، دخولًا واثقًا في تشكّكه بكل شيء: بوجود الشعراء، وبما هو منسوب إليهم، وفق ما عرف بظاهرة: الانتحال. ودخل في جدالات صعبة وعسيرة ومتشعبة الاختصاصات المعرفية: لغوية، نقدية، تاريخية، أنثروبولوجية... ووضع ذلك كله في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" الذي أثار جدلًا عظيمًا، وربما لم يزل يثيره حتى الساعة لدى كل حديث عن الشعر الجاهلي وثقافة المنطقة آنذاك.

اعتبر طه حسين أن لا وجود للعديد من شعراء الجاهلية، خاصة شعراء المعلقات، إنما تم انتحالهم في العصور الإسلامية

اعتبر طه حسين أن لا وجود للعديد من شعراء الجاهلية، خاصة شعراء المعلقات، إنما تم انتحالهم في العصور الإسلامية، وتأليف تلك القصائد والمعلقات ونسبتها إليهم،  فالكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًا، وفق رأيه، ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. إن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسدين والمحدثين والمتكلمين.

اقرأ/ي أيضًا: طه حسين.. أوراق مجهولة بالفرنسية

هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. إذا أردتُ أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير، لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقًا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن، "فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي. ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه".

أما أسباب هذا الانتحال فكثيرة، منها السياسية، وتعني هنا: العصبية القبلية التي أدت إلى انتحال شعر يعلي من شأن قبائل المنتحلين، ويحط من شأن القبائل المنافسة. ومنها القصص وضرورة تزيينها بالشعر، الأمر الذي يعني لجوء "القصاصين" إلى الانتحال لأجل ذلك. ومنها الشعوبية، حيث انتحل الشعوبيون، في معرض عدائهم للعرب، شعرًا يحط من شأن هؤلاء، ويسمهم بالجهل والتخلف، ثم انتحال العرب، ردًا على ادعاءات الشعوبية، شعرًا يكرس وضعهم التاريخي، ويُظهر اطلاعهم على معارف شتى منذ القديم. كذلك الرواة الذين لم ينفكوا يكذبون ويختلقون الأشعار، حيث يقول طه حسين في الراويتين: حماد وخلف الأحمر ما قاله مالك في الخمرة، ويجمع جلّ ما قاله التراث العربي بحقهما من صفات مقذعة ليثبت أنهما لم يتورعا عن نحل الشعر تكسبًا أو تملقًا أو غير ذلك. ثم يأتي إلى السبب الأكثر شيوعًا وهو الدين، فقد انتحل المسلمون شعرًا كثيرًا ليثبتوا أن فكرة "وحدانية الله" وقدرته الكلية موجودة منذ ما قبل الإسلام، وكان دليل طه حسين على ذلك وجود الكثير من العناصر الإسلامية في الشعر الجاهلي، فلو لم تكن قيلت في عصور الإسلام فمن أين يتأتى ذلك لأولئك الشعراء؟

ثارت ثائرة الكثير من الكتاب العرب على طه حسين بسبب من هذا الرأي، فعدا عن تقديمه للمحاكمة بتهمة الحطّ من قدر الإسلام والافتئات على النبي، أُغرقت الصحافة بالمقالات التي تفنّد رأيه، وتكذّبه، مرة بحق ومرات بدون حق، وازداد عدد الكتب في المكتبات جراء قيام العديد من الكتاب بالرد عليه، ومنهم من فند رأيه بندًا بندًا ببراهين كانت، غالبًا، تتوافر على شيء كثير من الصحة.

الأمر الهام الذي ذكره طه حسين، وكان واحدًا من أسباب شكّه بالشعر الجاهلي، هو اللغة

الأمر الهام الذي ذكره طه حسين، وكان واحدًا من أسباب شكّه بالشعر الجاهلي، هو اللغة. إذ يعتبر أن اللغة التي قيلت بها تلك القصائد هي لغة قريش، فمن أين لشاعر من قبيلة أخرى غير متصلة بأي شكل كان مع قريش، أن يعرف تلك اللغة، لا سيما أن طه حسين تبنى نظرية "العزلة" فيما بين القبائل لينفي أي اتصال فيما بينها، وينفي تاليًا التأثر والتبادل اللغوي فيما بين هذه القبائل. وقد شدّد على أن لغة الشمال مختلفة عن لغة الجنوب وأن كل لغة بالنسبة للأخرى هي بمثابة لغة أجنبية!

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرحمن بدوي.. سيرة تحتاج إلى عشرة أعمار

وقد ردّ عليه الكثيرون في هذه النقطة، كلٌّ حسب اطلاعه على تطور اللغات وحسب قناعته بالأمر، لكنني أجد أن ردّ آرثر آربيري هو الأكثر قربًا من وقائع التاريخ وحقيقة لغة الشعر الجاهلي. يرى آربيري أن اللغويين المحدثين رفضوا النظرية التي تقول إن لغة الوحي مشتقة من لغة قريش، وبدلًا من ذلك فإنه يُعتقد بأنه وجدت لغة أدبية للاستعمال الرسمي ولشؤون التبادل القبلي. هذه اللغة كانت مبجلة أكثر من غيرها، وقد استعملها النبي والشعراء الجاهليون لأنها تعطي سيرورة أعظم لأفكارهم. وبينما تحتوي على عناصر من لهجات قبلية أخرى، فقد كانت لغة اصطناعية أدبية تستعمل في مناسبات جليلة.

سبق طه حسين في رأيه هذا المستشرق البريطاني مرجليوث الذي ادعى نحل الشعر الجاهلي، فهو يرى أن الشعر الذي قصده القرآن هو سجع الكهان وخطبهم، إذ لم يجد، حسب قوله، ما يؤيد أن الشعر الذي قيل إنه موجود في الجاهلية هو هذا الشعر الذي ظهر على أنه جاهلي. وكان قد حدث له الأمر ذاته الذي حدث لطه حسين، باستثناء أنه لم يتعرض لمحاكمة، فقد قام الكثيرون بالرد عليه. وفي التاريخ أن المستشرق آربيري قام بالرد عليه وعلى طه حسين نقطة نقطة، وعلى نحو قوي حقًّا.

كان طه حسين، على مستوى الثقافة العربية، رائد الشكّ، ليس على مستوى قضية الانتحال فحسب، بل على مستوى قراءة التراث

مشكلة النحل، أو الانتحال، قديمة في ثقافات الشعوب، فقد أثيرت في كافة المراحل وعند كافة الأمم التي أنتجت أدبًا وشعرًا. إذ إن عدم وجود كتابة في العصور الشفوية، وعدم توثيق ذلك النتاج أباح وجود مشكلة الانتحال وظهورها بوصفه قضية كبرى اجتهد الكثيرون في حلّها والبحث فيها وفي أسبابها.

اقرأ/ي أيضًا: لا عقاب على الخيال

كان طه حسين، على مستوى الثقافة العربية، رائد الشكّ، ليس على مستوى قضية الانتحال فحسب، بل على مستوى قراءة التراث بدءًا من التراث الجاهلي مرورًا بتراث الإسلام، لكن حساسية هذه المسألة لدى شعوب المنطقة جعلت بعض حراس العقائد يضيقون الخناق على طه حسين-رجل التنوير القوي عبر دعاوى قضائية ومقالات صحفية وشائعات جعلت من مثقف التنوير يتراجع خطوة إلى الوراء ويصدر في السنة التالية لصدور كتابه "في الشعر الجاهلي" كتابًا آخر هو "في الأدب الجاهلي" دوّر فيه بعض الزوايا الحادة التي كان رسمها في كتابه الأول... لكن ذلك لم يفد حراس العقيدة، بل انتشر الكتاب وقُرئ على نحو واسع، ولم يزل، حتى تاريخ الناس هذا، في التداول والنقاش بصرف النظر عن صحة ما فيه، بل الجوهري في الكتاب والمهم هو أن الشّكّ طريق صلب يمكن سلوكه للاقتراب من الحقيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل كانت المعلقات "سورًا" دينية لآلهة العرب؟

محمود محمد شاكر.. قصص وأسرار