28-أغسطس-2017

طه حسين

منذ عدة سنوات، أصدر "المركز القومي للترجمة" كتاب "من الشاطئ الآخر" الذي كان رائدًا من حيث ترجمته وتأليفه، حيث أسقط الضوء على كتابات طه حسين التي أملاها باللغة الفرنسية ولم نكن نعرفها كعرب، لكن المحقق والمترجم عبد الرشيد محمودي أزاح الستار عنها، وأحدثت ترجمته تلك زخمًا معرفيًا ورواجًا لرائعة أخرى لم نكن نعرفها عن عميد الأدب العربي طه حسين.

يسلط كتاب "من الشاطئ الآخر" الضوء على كتابات طه حسين التي أملاها باللغة الفرنسية

عقب ذلك، أصدر المترجم نفسه كتاب "طه حسين بين السياج والمرايا" الذي ضم العديد من القضايا الفكرية التي كانت تشغل حسين، وبالرغم من اعتقاد البعض أن الأمر انتهى بانتهاء ظهور أفكار وكتابات جديدة له، أصدر المترجم عن المركز القومي أيضًا كتاب "طه حسين… الأوراق المجهولة: مخطوطات طه حسين الفرنسية"، التي وجّهها جميعها لغير الناطقين بالعربية وأحيانًا لغير المسلمين؛ فتلك مخطوطاته الفرنسية التي أملاها على من كتبها على الآلة الكاتبة، أو بخط اليد قبل نشرها مطبوعة أو إلقائها في محاضرة أو خطبة، أو توجيهها على شكل رسالة إلى شخص أو تقرير لجهة شخصية إلا إنها لم تنشر ولم تذع، حيث تدلنا لأول مرة وعلى وجه أقرب إلى اليقين على طريقة طه حسين في التأليف، بالرغم من علمنا بأنه كان يُملي ولا يكتب وهو ما صرح به في إحدى مقالاته الصادرة بالفرنسية تحت عنوان: "أنا لا أكتب ولكن أُملي".

اقرأ/ي أيضًا: في صالون العقاد

على ما يبدو أن النصوص التي يضمها هذا الكتاب مجهولة لأنها مسودات أملاها عميد الأدب العربي بالفرنسية، وإن لم يعن بنشرها، لذلك يمكن أن نسميها كما سماها "مخطوطات". جمع المترجم هذه الأصول ونشرها في طبعة علمية نقدية يحفظها من التشتت والضياع بعدها أن نشرها منفصلة في هيئة مقالات لجريدة الأهرام باعتبار أنه يتيحها للإطلاع على نطاق العالم، وهو ما صرح به في أحد اللقاءات القليلة التي ظهر فيها في التلفزيون، إذ أوضح أنه ربما ينسى النص الذي يعكف على كتابته بمجرد الانتهاء منه ولا يحاول البحث عنه مرة أخرى، وتلك هي طريقته الأثيرة في التعامل مع نصوصة أو مقالاته التي نشرت متفرقة ثم جمعت في "حديث الأربعاء" أو "على هامش السيرة"، فلم يبق من هذه الكتابات مخطوطات بعد طبعها، حيث كان طه حسين يسلمها إلى المطبعة ولا يحتفظ بنسخة لنفسه.

تخبرنا تلك الطريقة بأنه كان يحفظ النصوص عن ظهر قلب أثناء إملائها أو عند تلاوتها عليه، بعد تسجيلها وتنقيحها لو لزم الأمر، ومعنى ذلك أن "حظ الارتجال هنا قليل جدًا، فقد كان لديه طوال الوقت نص يمليه ويحفظه في ذاكرته قبل أن يواجه الجمهور فيسترجعه أمام السامعين بالكلمة وهو ما يفسر إتقانه لمخارج الحروف عند إلقاءه خطب"، أو خلال جلساته الثقافية ونقاشاته التي لا تنتهي.

يضم الكتاب مجموعة مقالات وأفكار لطه حسين، بالإضافة إلى وجود تفريغ لخطب كان قد ألقاها خلال بعض المناسبات؛ منها ما يوضّح موقف طه حسين من القضية الفلسطينية التي كان يُتهم بالتطبيع إزاءها كما يعتقد المترجم، حيث قال "لقد كانت فلسطين دائمًا عربية وهي ما زالت عربية، وينبغي أن تبقى كذلك، ويجب أخيرًا أن تحكم نفسها كما تريد، وليس كما تريد لها قوة أخرى، من أوروبا وأمريكا"، وكان يرفض الصلح تمامًا معتقدًا "أن الصلح مع الظالمين إجرام ما دام ظلمهم باقٍ".

لا يؤمن طه حسين بحتمية التاريخ، لكنه يؤمن بأن الإنسان سيد حياته ومسيطر على مصيره

وفي ورقة بحثية أخرى عقد طه حسين مقارنة بين فرقة المعتزلة والفيلسوف ليبنتز، والتي تعتبر موضوع جدير بأن يثير اهتمام أي باحث في مجال الفكر الإسلامي، فعلى حد قول المحقق "أن الأفكار التي ترد في كتابات ليبتز ما زالت تناقش في الأزهر الشريف عند دراسة المعتزلة حتى الآن،  بالتالي فإن طه حسين أصاب تمامًا عندما استخدم خلال مناقشة كتاب "الثيوديسي" لليبنتز؛ والثيوديسي تعني (الدفاع عن عدل الله)، بينما كانت شهرة المعتزلة تأتي من اهتمامهم الشديد بالتوحيد والعدل، حيث يجمل الشبه بين الفيلسوف وفرقة المعتزلة في دافعهما عن وحدانية الله باعتبار أن "صفاته هي عين ذاته" متباهين بأنهم أهل التوحيد وأنصار الوحدة الإلهية، وعن عدله الذي يستتبع بالضرورة القول بحرية الإنسان، مخالفين بذلك آراء "أهل السنة" في تلك الأمور.

اقرأ/ي أيضًا: لا عقاب على الخيال

تحدث أثناء احتفاله بالذكرى الألفية رحيل أبي العلاء المعري رهين المحبسين؛ أي فقد نظره ولزومه البيت كوال عمره، طه حسين ظل طوال الوقت ينوء بالمشكلات العلائية، ولا يؤمن بحتمية التاريخ، لكنه يؤمن بأن الإنسان سيد حياته ومسيطر على مصيره.

كما تحدث في مقالته "قوة القرآن من الناحية الصوفية مشروحة لغير المسلمين" والتي تعتبر أهم مخطوطات الكتاب، تحدث عن قوة القرآن التي جعلته "يتخلى" للحظة عن عواطفه كمسلم لدراسة تلك الظاهرة ذات الطابع الأدبي في النهاية، ويصف القرآن بأنه لم يحدث قط أن كان لعمل أدبي تلك السيطرة التي مارسها القرآن على القادرين على تقدير قوته، وعن رحلة نبي الإسلام محمد، بسرد أدبي بديع.

خلال حديثه عن اليونان خلال كلمته بأثينا بمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية، في آذار/مارس 1951 قال إنه إذا تركنا المحبة التي تجمع مصر واليونان جانبًا، فإن العلم بتاريخنا الخاص كمصريين موقوف على العلم بتاريخ  اليونان "لشدّة ما بيننا وبينهم من الصلة الأساسية والأدبية منذ خمسة وعشرين قرن، وإن رقينا الحديث موقوف على دراسة هذا التاريخ لأن معنى هذا الرقي هو الأخذ بما يلائمنا من المدينة الحديثة وهذه المدينة يونانية قبل كل شيء، حيث كانت لغة اليونان هي اللغة الرسمية لمصر منذ الإسكندر حتى وصول الإسلام وكانت الثقافة اليونانية هي الغذاء الروحي للمصريين منذ القرن الرابع قبل الميلاد". كان يريد أن نفهم تمامًا إنه يجب علينا تعلّم الأدب والثقافة اليونانية دون وسيط إنجليزي أو فرنسي "فالتعارف عن طريق الوسطاء ومن خلال لغات أجنبية، لا ينبغي أن يُسمح به لأصدقاء مثل مصر واليونان".

يرى طه حسين أن الترجمة وسيلة لتحقيق وحدة العقل الإنساني أينما تجلّى في العالم

أيضًا كان يرى خلال مقالته "مشكلة الشرق" من مدينة البندقية في إيطاليا عام 1945 أن "مشكلات الشرق لن تحل تمامًا طالما لم تحل مشكلات شمال أفريقيا"، وأن العالم الجديد لا يمكن أن يشيد إلا إذا كان الجانب العربي من البحر المتوسط يتمتع بنفس الاستقلال المعترف به اليوم للشعوب التي تحيا على جانبه الأوروبي دون غيرها، "وما لم تتحقق المساواة لن تكون هناك علاقة ثابتة بين الشرق والغرب ولا سيما أنه أصبح من الظاهر بوضوح أن عهد السيطرة على هذه البلدان العربية قد انتهى منذ أمد بعيد"، حيث نادى في تلك المقالة مخاطبًا الدول الاستعمارية بالانتهاء من محاولة السيطرة على دول البحر المتوسط وشمال أفريقيا.

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة في تطوّر الرواية الأوروبية الحديثة

تحدث عن علاقتا بأسبانيا التي "بدأت بحروب وانتهت بتبادل ثقافي"، ودعى إلى تعلّم الإسبانية، ليس من باب أنها رائعة فقط ولكن "لكي يتمكن المصريون من ترجمة روائع الأدب الإسباني"، كما دعا الإسبان إلى تعلم اللغة العربية، حين كان يتحدث عن ترجمات "كاملة" لأعمال كتاب وفلاسفة غربيين وصينيين ويابانيين، ليس عملين أو اثنين فقط، "لأنه يتعين تمامًا تلافي الترجمات الجزئية التي تتيح ترجمات جزئية التي تتيح مجالًا لبقاء الأوهام التي سادت حتى الآن"، كما نادى بإنشاء مركز إقليمي في بيروت، "وأن يكون به لجنة فرعية وطنية في كل بلد تتألف من أشخاص أكفاء بالنسبة إلى كل ما يتعلق بترجمة الأعمال الكلاسيكية ونشرها وتوزيعها"، حيث توجد في مصر منظمات حكومية أو خاصة للترجمة ولكنها تعنى بالكتب المدرسية، وكتب تبسيط العلوم والروايات ولا تترجم الكلاسيكيات إلا بقدر احتياجات التعليم الثانوي.

كانت حركة الترجمة من وإلى القاهرة تشكّل لب مشروع طه حسين الثقافي، كان يراها السبيل الأهم للثقافة الحقة، وأن الترجمة "وسيلة لتحقيق وحدة العقل الإنساني أينما تجلّى في العالم". تبلورت تلك الرؤية خلال حديثه عن "مشروع اليونسكو" الذي يصفه المحقق "بالمجهول"، وظل مجهولًا حتى وجده بين تلك المخطوطات؛ كان يهدف من خلاله إلى ترجمة المؤلفات الكبرى تحت عنوان "سلسلة الروائع العالمية".

اقرأ/ي أيضًا:

برج بابل "اللّغات" العربية

يوسف إدريس.. كاتب أم رجل دولة؟