08-يناير-2021

الصحفي الأمريكي توماس فريدمان

بينما كان توماس فريدمان يخرج بسيارته من المرآب، استوقفه موظف الشباك، الذي بدا أنه يعرفه جيدًا، وقال له: "أنا أكتب أيضًا، لدي مدونتي الخاصة، هلا اطلعت عليها!".

انصرف الصحفي الأمريكي الشهير بمزيج من الحنق والاستهجان: "يا الله! حتى عامل ساحة الانتظار صار منافسًا لي! عامل المرآب يملك مدونة خاصة! وهو كذلك يكتب عموده الخاص! بالله ما الذي يجري؟".

أن تكون غير متاح لأصدقائك وأسرتك، أن تكون غير قادر على تخصيص وقت تراقب فيه غروب الشمس.. أصبح ذلك نموذجًا للحياة الناجحة

غير أن الفضول تغلب على الحنق وأزاح الاستهجان، إذ وثق فريدمان معرفته بالعامل الستيني الذي تبين أنه إثيوبي حاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة هيلا سيلاسي في أديس أبابا، وهو هنا، في الولايات المتحدة وفي هذا المرآب، لأنه معارض سياسي لحكومة بلاده.

اقرأ/ي أيضًا: كتب تجعلنا نبدو أذكياء

يعقد الاثنان صفقة: يشرح إيلي بوجيا (هذا اسم الرجل الإثيوبي) دوافعه للكتابة وهو في هذا السن، ويعطي شريكه صورة واضحة عن عوالم التدوين الإلكتروني، وكذلك يشرح قضايا بلده وهمومه الأساسية. بالمقابل يقوم فريدمان بتعليم بوجيا كيفية كتابة مقال الرأي الصحفي الاحترافي. من هنا، من هذا اللقاء غير المتوقع، يأتي كتاب توماس فريدمان السابع "شكرًا لأنك تأخرت" (مكتبة جرير 2018).

ولماذا يستحق المتأخرون الشكر؟ لقد اعتاد الكاتب دعوة مصادره وأصدقائه إلى الفطور في أحد المطاعم، وغالبًا ما كان هؤلاء يصلون متأخرين عن الموعد دقائق تتراوح بين العشرة والثلاثين، وقد اكتشف المضيف الجالس وحيدًا على الطاولة أنها دقائق ذهبية للتأمل وترتيب الأفكار بعيدًا عن دوامة الحياة المهلكة، "كنت بحاجة لمنح نفسي (وكذلك ضيوفي) إذنًا بالإبطاء قليلًا، وكنت بحاجة لإذن للانفراد بأفكاري دون الحاجة لكتابتها على تويتر، أو التقاط صورة معها، أو مشاركتها أحدًا غيري"، ولهذا كان يرد على اعتذار ضيوفه عن التأخر بالقول: "شكرًا لأنك تأخرت".

ينقل فريدمان عن الكاتب واين مولر تعليقه على مقولة "أنا مشغول جدًا". يقول مولر: "نحن نكرر هذه الجملة لبعضنا البعض بقدر غير قليل من الفخر كما لو أن استغراقنا الكامل هو علامة نصر.. أن تكون غير متاح لأصدقائك وأسرتك، أن تكون غير قادر على تخصيص وقت تراقب فيه غروب الشمس.. أن تتقلب بين التزامات حياتك دون وقت لمجرد نفس عميق واع، أصبح ذلك نموذجًا للحياة الناجحة".

أما المحرر والكاتب ليون وايزلتير فيعلن سخطه على سيادة منطق التكنولوجيا الذي لا يعترف إلا بالسرعة: "يريد منا العاملون في التكنولوجيا الاعتقاد بأن الصبر صار فضيلة فقط لأننا في الماضي لم نكن نملك سوى خيار واحد".

كاتب مقال الرأي يعمل إما في التسخين أو في الإضاءة، فكل عمود صحفي إما أن يضيء بقعة ضوء في عقل القارئ أو أن يثير في قلبه عاطفة تدفعه لشعور أو أداء أكثر قوة أو أكثر اختلافًا

هذا إذًا ما يدعونا فريدمان إليه: أن نتوقف قليلًا خارج تيار الحياة، اللاهث على إيقاع التكنولوجيا المجنونة، ونأخذ نفسًا عميقًا، ونجلس لتأمل العالم من حولنا ومحاولة فهمه.

اقرأ/ي أيضًا: الحداثة السائلة.. هشاشة الروابط الإنسانية والخوف من المجهول

أليست نغمة مستهجنة وغير مألوفة من توماس فريدمان؟ هل تتذكرون تلك النبرة الانتصارية المفرطة في التفاؤل في كتابه "العالم مستو"، أو في كتابه الآخر "السيارة ليكزاس وشجرة الزيتون"؟ يومئذ كانت جميع الأمور تجري في الاتجاه الصحيح، والعولمة المكتسحة والمسلحة بالتكنولوجيا المتطورة على وشك صياغة عالم زاه، أو على الأقل: عالم أفضل من الذي يصوره فريدمان في كتابه الأخير هذا.

على كلٍ فإجابة الكاتب النهائية لن تتغير كثيرًا، فهنا أيضًا يعلن عدم إمكانية التراجع وعكس الاتجاه، وأن الحل يكمن في المزيد من التقدم والذي من شأنه تجاوز العيوب.. المطلوب فقط هو التشذيب والتصويب والحد من الجموح باتجاهات محددة.

وماذا عن المدون الإثيوبي، ما الذي تعلمه من شريكه في الصفقة؟ يبين له فريدمان أن كاتب مقال الرأي يعمل إما في التسخين أو في الإضاءة، فكل عمود صحفي إما أن يضيء بقعة ضوء في عقل القارئ أو أن يثير في قلبه عاطفة تدفعه لشعور أو أداء أكثر قوة أو أكثر اختلافًا. والمقال الصحفي المثالي يؤدي الوظيفتين على السواء.

إن كتابة المقال هي عمل من أعمال الكيمياء. والتفاعلات الكيميائية هنا تشمل مزجًا لثلاثة مكونات أساسية: أولًا، قيمك الخاصة وأولوياتك وطموحاتك. ثانيًا، كيف ترى أعظم القوى، أضخم التروس والروافع العالمية، وهي تشكل الأحداث من حولك؟ ثالثًا، ما الذي تعلمته عن الثقافة والناس وكيفية استجابتهم حين يصل تأثير تلك القوى الكبرى إليهم؟

ويستشهد فريدمان بالاستراتيجي لين ويلز الذي يقدم ثلاث طرق للتفكير في أية مشكلة: "من داخل الصندوق"، "من خارج الصندوق"، "حيث لا صندوق"، مؤكدًا أن المنهج الوحيد القادر على الصمود اليوم هو التفكير بلا صندوق.

وما هي هذه القوى التي تشكل الأحداث من حولنا؟ إنها التكنولوجيا، والعولمة، والتغير المناخي. وثلاثتها تتسارع بصورة مدوخة صانعة ما يشبه الإعصار. فأين المفر من هذا الإعصار؟

إجابة فريدمان تلخصها كلمات هذه الأغنية التي سمعها مصادفة: "لقد لففت حبك حولي كسلسلة/ ولكني لم أخش أن يذوي حبك أبدًا/ يمكنك أن تلهو داخل إعصار/ فقط إن وقفت داخل العين".

ويقول: "أرى أن المجتمع الصحي القوي أقرب شبيه سياسي يمكنني التفكير فيه لعين الإعصار.. الحمد لله لأن المدينة الصحية القوية، أو المجتمع الصحي القوي، سيكون أكثر الأجزاء الأساسية الحاكمة أهمية في القرن الحادي والعشرين".

توماس فريدمان: "أرى أن المجتمع الصحي القوي أقرب شبيه سياسي يمكنني التفكير فيه لعين الإعصار"

في الجزء الأخير من الكتاب يعود المؤلف إلى موطنه: مدينة سانت لويس بارك، بالقرب من مينابوليس بولاية مينيسوتا. وبعد جولة في ذاكرة المدينة وحاضرها يؤكد أنها النموذج المثالي لـ"عين الإعصار".

اقرأ/ي أيضًا: أن نكون أحياء

يكره كثير من القراء العرب توماس فريدمان، بسبب موقفه من القضية الفلسطينية، وكذلك بسبب حماسه المفرط للتبشير بالعولمة. لكن ذلك يجب ألا يكون مبررًا لعدم قراءة كتبه، فكاتب الـ"نيويورك تايمز" الشهير لديه الكثير ليقوله عن عالم اليوم، ما يجعل الإصغاء إليه مفيدًا، ويبقى الاقتناع من عدمه مسألة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

آلان باديو.. مرافعة فلسفية عن الحب

مفارقة جورجيو أغامبين حول كورونا