10-ديسمبر-2020

عن مجلة "فورين بوليسي"

كتب محمود أمين العالم، منذ نحو نصف قرن، مقالًا بعنوان "بلاش فلسفة"، دافع فيه ـــ عكس ما يوحي العنوان ـــ عن ضرورة الفلسفة التي "نمتصها ونتنفسها ونعيشها" في كل دقيقة من حياتنا بوعي أو بغير وعي، مشيرًا إلى أننا قد نكون ـ دون أن ندري ـ من "أنصار سارتر أو وليم جيمس أو برغسون أو ماركس أو محي الدين ابن عربي أو ابن رشد". باختصار: ما دامت الفلسفة هي طريقة النظر إلى الناس والكون فكلنا ـ حسب العالِم ـ فلاسفة بشكل أو بآخر.

ما دامت الفلسفة هي طريقة النظر إلى الناس والكون فكلنا ـ حسب العالِم ـ فلاسفة بشكل أو بآخر

ولكن ماذا عن الفلسفة بوصفها حقل اختصاص؟. يقول ويل ديورانت في معرض شرحه لأفكار جون ديوي: "الفلسفة تفر اليوم أمام العلم، لقد فرت العلوم الواحد تلو الآخر منها إلى عالم الإنتاج. وبقيت الفلسفة وحدها كأم مهجورة نضبت حيويتها وتركها أولادها".

اقرأ/ي أيضًا: الوجود الإنساني وسؤال: لماذا نحن هنا؟

وهكذا فقد خسرت الفلسفة معظم مواقعها سواء أمام العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، فأي سبب إذًا يدعونا إلى دراستها؟، هكذا يتساءل دانيال جونسن في مقال له (ترجمه إلى العربية أحمد الشافعي)، ملاحظًا أن "أغلب الفلسفة اليوم يميل إلى التخصص والمغالاة في الطبيعة التقنية"، وأن الفلاسفة المعاصرين يخلصون إلى "نتائج ذكية، لكنها في الأغلب تافهة".

ثمة بالفعل الكثير من كتب الفلسفة التي لا تقول شيئًا عن العالم بل تخبرنا ماذا قال الآخرون عنه، لنحصل على سلسلة لا تنتهي من شروح الشروح والقول على القول والهوامش على الهوامش.. كتب أخرى تختبئ وراء رطانة علمية أكاديمية عويصة، ووحدهم الراسخون في الصبر من يستطيعون ترجمتها، ليكتشفوا في النهاية أنها لا تقول أكثر مما تقوله الحكم المكتوبة على أوراق الروزنامة..

ولكن هل يعني هذا أن قراءة الفلسفة صارت بلا جدوى؟ على عكس ما قد نتوقع، فإن قرّاء الفلسفة ما زالوا موجودين وبأعداد لا بأس بها، ويبدو أن هؤلاء يعيشون في الغالب حالة كمون، ثم يخرجون إلى حالة الفعل (القراءة) بقوة عندما يظهر فيلسوف أو كتاب فلسفي جدير بالاهتمام. حدث هذا مؤخرًا مع سلافوي جيجيك، الفيلسوف الماركسي السلوفيني، الذي صار نجمًا في وسائل التواصل الاجتماعي ومصدرًا خصبًا للاقتباس والاستشهاد، بعد أن حققت كتبه انتشارًا بدا مفاجئًا، وكذلك هناك الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر، والفيلسوف البريطاني جوليان باجيني. باجيني عرفه قراء العربية عبر كتابه الطريف "حجج فاسدة تجعلنا نبدو أغبياء".

هذه الظاهرة تشد من أزر المنافحين عن الفلسفة. يقول هؤلاء إن الفلسفة وإن خسرت كثيرًا من مواقعها فروحها لا تزال مبثوثة في كل العلوم: تحفيز الفضول، والحس النقدي، والتفكير المنطقي، وإثارة الأسئلة الصحيحة كطريق للحصول على إجابات دقيقة.

إن الفلسفة هي أرض المشتركات الإنسانية التي تقاوم التجزئة والبعثرة والتشتت، محافظة على الوحدة الإنسانية والنظرة الشمولية للعالم في مواجهة التخصص، الذي كاد أن يحول البشر إلى سكان غيتوات منعزلة.

لا تزال الفلسفة تقيم اعتبارًا لتوازن الوسائل والأهداف، ولا تزال تتشبث بالغايات وعلى رأسها الإنسان نفسه

وربما الأهم أن الفلسفة لا تزال تقيم اعتبارًا لتوازن الوسائل والأهداف، وعلى عكس كثير من العلوم التي تراكم الإنجازات دون بوصلة أو هدف واضح، فهي لا تزال تتشبث بالغايات وعلى رأسها الإنسان نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "دعوة إلى العقلانية".. التاريخ الفكري والروحي للفلسفة في العالم الإسلامي

يكتب بيتر سينجر: "أعرف من واقع تجربتي الشخصية أن الانتظام في كورس لدراسة الفلسفة قد يفضي ببعض الطلبة إلى أن يصبحوا نباتيين أو إلى البحث عن مهن تمكّنهم من منح أنصاف دخولهم لأعمال الخير بل وإلى التبرع بكلية لغريب. فأي مجال دراسي آخر  يمكن أن يقول هذا عن نفسه؟".

أما محمود أمين العالم فيختم مقاله باستئذان القارئ في أن يعود إليه بين الحين والآخر وذلك كي "نتفلسف معًا في أمور كثيرة".. وتحت العنوان نفسه: "بلاش فلسفة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

العقل.. محاولة للتعريف

أن نكون أحياء