17-يونيو-2020

الفيلسوف الفرنسي آلان باديو

في كتابه الذي لا يتعدّى المائة والثلاثين صفحة، الصادر عام 2009، تحت عنوان في مديح الحبّ (Éloge de l'amour)، يقدّم الفليلسوف الفرنسي والأستاذ في كليّة الدراسات العليا الأوروبية آلان باديو (Alain Badiou) مقاربة جديدة حول مفهوم الحب وبنائه وحقيقته وعلاقته بالسياسة والفنّ.

في عالم تشيع فيه النزعة الاستهلاكية وتسعى فيه الرأسمالية لتقديم خدماتها، على كافة أشكالها، على طبق من الفضة، عبر نشر أساليب "الحياة الرغيدة" والدعوة إلى السعادة والاستقرار العاطفيّ، ليس لنا إلا أن نعيد طرح سؤال أدورنو المونولوغي على أنفسنا "كيف يمكن العثور على الحقيقة في عالم زائف؟".

يركز الحب على وجود الآخر الذي يتدفق وينساب، ويتعدى حدوده الخاصة ونرجسيته

هل أصبح من السهل "الوقوع في الحب؟"

تدعونا الرأسمالية إلى تبييض أسناننا وتجبرنا على الابتسام دومًا، تقدم لنا الحلول السريعة والسهلة لحل مشكلاتنا اليومية، "كيف تطيلين شعرك في شهر واحد؟"، "كيف تختار بدلاتك الرسمية؟"، "كيف تختار شريك حياتك؟".. وتعرفنا على تطبيقات للمواعدة، مجهزة مسبقًا، لتعرض لنا صفات شاب أو فتاة أحلامنا، تهيؤنا للوقوع في الحب وبهذا تلغي هذا "التصادم العاطفي الدرامي غير المتوقع"، وتنبذ الصدفة وفرص اللقاء التي يعدها باديو أساس الحب.

اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة

"يبدأ الحب بلقاء وسوف أعطي هذا اللقاء حالة شبه ميتافيزيقية للحدث، أي شيء ما لا يندرج ضمن القانون الحالي للأشياء" يقول باديو، ويؤكد على أن الحب غير قابل للاختزال ولا إلى التوقع، إنه حدث مفاجئ يحصل بالصدفة، ومن هنا يستمد وجوديته ومعناه.

لغة الجنس.. لغة الحب

ثم يتطرق في الفصل الثاني للحديث عن نظرة لاكان للحب والرغبة وتصريحه بأنه ليس هناك اتصال جنسي، باعتبار أن لغة الجنس نرجسية وأنانية، فجسد الآخر في الجنس ليس سوى امتداد لرغبة الأول ولذته، العاشق في الجنس لا يبحث عن الآخر إنما عن حدود جسده فيه، لأنه يكشف له عن نفسه، يمكن أن نقول هنا أن الجسد أنطولوجي، فهو يدور في دوائر متراصة ويعود دومًا إلى نقطة البداية، نقطة الرغبة وينتهي بالفراغ، "فراغ اللااتصال" الذي يخضع لقانون التكرارية.

الرغبة الجنسية فيتشية لا تركز على الشخص وكينونته باعتباره كائنًا مستقلًا بالقدر الذي تركز فيه على مناطق الإشباع في جسده، كالثديين والقضيب والفم والعجيزة. فبعد الانتهاء من الجنس يتباعد الجسدان واحدهما عن الآخر، ويصبحان غريبين، لحظة الالتقاء التي تقرب الجسدين بعضهما من بعض هي الرغبة. بعد الرغبة لا يوجد إلا الفراغ.

يخلق الجسدان هذا الحيز الضيق على السرير ليسمحا للوقت بأن يتسرب، في هذه الساعات القليلة يكتشف الجسد نفسه ورغباته، أي أنه يتخلص من فراغاته. لكن بعد الانتهاء من الممارسة، يعود الشخص إلى حالته الأولى "الفراغ".

أما الحب وعلى العكس من هذا فإنه يركز على وجود الآخر الذي يتدفق وينساب، ويتعدى حدوده الخاصة ونرجسيته، في الحب يذهب الشخص إلى ما وراء نفسه، يخاطب الآخر باعتباره أنا أخرى، غريبة ومنفصلة، إنه لا يبحث فقط عن هذا النوع من الاتصال، الذي يعزز نرجسيته ويرضي غرائزه. إنما يبحث عن لغة تواصل ونقاش حسي - روحي مع الآخر هذه هي حقيقة الحب، الانفصال، كما تؤكد عالمة النفس رودولف أوبنهايمر (Rodolphe Oppenheimer) بقولها "إننا نحب في الانفصال وليس في الانصهار".

يخلق الحب لغة جديدة خاصة به، يتواصل من خلالها ويعبر بها عن مكنوناته ودفائنه. هذا العالم الصغير الذي يخلقه شخصان اثنان في لحظة ما وفي مكان ما ليكوّن حقيقةً وجودية، تستمد مادتها الأولى من الاختلاف.

خبرة الحب هي هذا العالم المبني على الانفصال والاختلاف. في الحب نكتشف كيف نكون اثنين وكيف نتخلى عن كوننا واحدًا.

وبهذا فإنه ينتقد المذهب الشكي الذي يعتبر الحب قابلًا للنقاش، باعتباره أمرًا وهميًا غير موجود، وباعتبار أن الرغبة وحدها الحقيقية والموجودة، أي أن الحب لا يعدو كونه غطاء مبرهجًا للذة الجنسية.

يرفض باديو مصطلح الوقوع في الحب بقوله: "الحب لا يأخذني إلى الأعلى ولا إلى الأسفل. إنه مشروع وجودي: بناء العالم من وجهة نظر تبتعد عن مركزية دافعي البسيط للبقاء على قيد الحياة ومصلحتي المباشرة".

وهذا ما يتعارض مع نظرة عالم النفس والاجتماعي إريك فروم الذي يرفض مصطلح "الوقوع في الحب" باعتبار أن الحب هو شيء يدفعنا دومًا نحو الأسمى والأعلى والأرفع.

وفي فصل بناء الحب يعرفه على أنه إمكانية المساعدة على بناء العالم، فالحب عملية بناء تحتاج إلى دعامتين اثنتين وتطالب في حقها بالاستمراية في العيش. فإعلان الحب ينقل الفرد من الحدث المتخيل إلى الواقع الفعلي، وهي لحظة بدء بناء العالم الحقيقي.

"أحبك تعني: أنت ينبوع وجودي في هذا العالم، في مياه هذا الينبوع، أرى فرحنا وأرى فرحك أولًا".

هل من قانون للحب؟

أما عن علاقة الحب بالسياسة والفن، فيشير باديو إلى الحميمية التي تربطه بالمسرح باعتبارها نوعًا من الحب، يغذي ماهيته، ولحظة يخترق فيها الحدث الوجود. ويؤكد على أنه لا يمكن اختصار الحب لأي قانون، فلا يوجد قانون للحب وكما يقول المثل الشائع في النهاية "العشاق وحيدون في هذا العالم".

أما في السياسة فإن الحب يفقد معناه الأساسي "الاختلاف" في صورة الجماعة، أي أنها تنبذ فردية الشخص وتطمس هويته داخلها، ويدعو باديو إلى الفصل بين السياسة والحب، لأن لكل منهما لغة خاصة به ووسيلة اتصال، تعبر الجماعة عن أفكارها على شكل مجموعة قيم ومعتقدات جماعية، وصورة كلية للوجود البشري وحدوده وجغرافيته، وبهذا أيضًا يتطرق إلى القضية الشيوعية التي تشدد على تجسيد هذا الحب وتجليه في صفوفها باستخدام لغة خاصة بها "أخ، أخت، رفيق، رفيقة"، "في حين أن الحب هو مغامرة فردية في السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف" كما يؤكد.  

آلان باديو: "الحب هو مغامرة فردية في السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف"

وبالتالي فإن السياسة تتعامل مع أعداء وتجهد نفسها في تحديدهم وتعريفهم، على العكس من الحب الذي لا يقبل هذه الصفقة ولا ينصاع إلى مجرياتها.

اقرأ/ي أيضًا: عن العلاقة بين الفلسفة والشعر

في النهاية يتخطى الحب عند باديو هذه "اللذة الآمنة القابلة للاستهلاك"، وهو يعيد صياغة لغة جديدة خاصة به تقوم على أهمية اللقاء والصدفة في عالم أصبح كل شيء فيه متوقعًا، وهو بذلك يتفق مع جيجيك الذي أكد على أننا نريد كسب الرهان بدون رهان، أي دون الوقوع في الخطر وبدون دفع أثمان في عالم يسعى دومًا نحو الحلول السهل والاقتراحات البسيطة الآمنة، ويقدم تعليمات واضحة وصارمة للأفراد والجماعات ليتصرفوا على أساسها، ويقدم "الحب" على أنه "وجبة سريعة جاهزة" في مطابخه ومطاعمه الواسعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تأملات في القيامة والمعنى

"دعونا نتفلسفْ".. كيف سار عظماء الفكر عكس التيار