08-سبتمبر-2016

امرأة بعد تفجير القامشلي

دخلتُ دمشقَ، في الأسبوع الذي فرّ فيه زين العابدين بن علي من تونس، هو دخل السعودية مقبلًا على جحيم المنفى، وأنا دخلت دمشق مقبلة على جنة الزواج.

عرفته في مدينة معسكر، حيث كان يعمل، فأفرغتُ فيه الحبَّ كله، كان اسمه باسم.. لا أنكر أنني استفدت من معرفتي بالمسلسلات السورية والتركية المترجمة إلى اللهجة السورية في التعامل معه، أحبّني، فكان ذلك عرسًا لي قبل الأوان، مثلما ذهبتُ إلى دمشق قبل أن أذهب إليها من خلال الحلم.

كانت دمشق حلمًا.. لكنني فقدته بمجرد أن حققته.. لماذا لا يكتب الكتّاب عن هذا النوع من الأحلام؟ الأحلام التي ما أن نلمسها حتى تتحول إلى كوابيسَ أنانيةٍ لا تسمح لبصيص من الحلم بأن يقاسمها الفضاء، رغم أنها خرجتْ من رحمِه. كوابيسٌ عاقة.. جاحدة تجعلك ترى الشمس كتلة من الظلام. ما مصيرُ قمرٍ تُظلِمُ شمسُه؟ إنه الوجه الآخر لسؤالٍ كنت أطرحه على نفسي حين شرع طفلي يتخبط في بطني.. مثلما بدأ الموت يتخبط في جنبات الشام، هل أكذب عليكم، فأقول إنني لم أكن أتمنى ألا يولد؟ لماذا يولد ما دام سيجد الموت عند الباب متربصًا في ثقة عميقة انتزعها من قلب الحياة؟ وقد عزّز هذا الشعورَ في نفسي، أن زوجي التحق بالثورة، فصار خوفي أعلى من صومعة المسجد الأموي التي كنت أراها كلما فتحت نافذتي، كنت أراها، ولم يكن العالمُ يرى منافسَها في العلو: خوفي.

كان باسم يقول لي: يجب أن أحرّر البلاد قبل أن يولد عبد القادر.. سمّاه على الأمير عبد القادر الجزائري الذي جاء دمشق من مدينة معسكر. وكنت أقول: الأمير نفسه هاجر من موت فرنسا إلى حياة دمشق. كنت ألمّح له إلى إمكانية العودة إلى الجزائر حتى يعود إلى قمر سوريا ضوءُ الشمس، ثم كففتُ عن قول ذلك، ليس لأنني كنت أقرأ في ملامحه رفضَ الفكرة بكل لغات الدنيا فقط، بل لأنني بتّ أحتقر نفسي حين أفكر فيها أيضًا: ليس من النبل أن أترك عائلتي الجديدة في عز حاجتها إلى المشاركة.

هل رأيتم أمًّا تدخل في نوبةٍ حادةٍ من البكاء حين يخرج طفلها الشرعي الأول إلى الوجود؟ رأيت قبرَه المحتملَ لا مهدَه الماثلَ أمامي، رأيت كفنه لا قماطه، لقد صدّقت في تلك اللحظة ما كان يقول الرصاص، ولم أصدّق حليبي الذي كاد أن ينفر لوفرته من الثديين.. باسم.. زوجي.. انتصر في الحالات كلها للحليب.

قال لي وهو ينظف رجليه المتقرحتين: لا يمكن أن أنتصر للثورة، وأنا لا أنتصر للحياة، فقط يجب أن تكون خطواتنا نظيفة.. أعطيت يدي قليلًا للحياة، فأعطى الموتُ يدَه لباسم.
لم أعرفْ كيف أبكيه.. في سوريا اليوم، نساء لا يعرفن كيف يبكين قتلاهن، لأن الفاجعة أكبر من الدموع.. هل تصدقون أنني لم أستطع أن أبكي حتى دخلت الجزائر من جديد؟ كم يلزمني من البكاء حتى أتطهر قليلًا.. قليلا فقط، من الإحساس بالموت؟

خارج الحالة قليلًا: هممتُ بأن أسألها: من أين اكتسبت روعة البوح؟ من حياتك هنا، أم من حياتك هناك؟ واصلتْ، فتركتُ سؤالي جانبًا، كل سؤالٍ يقفز على حالة إنسانية عميقة، هو جرعة زائدة من الأنانية، هل يمكن أن يكون الكاتب أنانيًا؟ 

رحل باسم منتصرًا للحرية وحليبي، وبقيتُ مع عبد القادر منتصرة لهذا السؤال: هل كنتُ أنانية حين تركت دمشق في هذه الظروف؟

كان بيتنا في معسكر لصيقًا بالمسجد، لذلك فقد كبرتُ على صوت المؤذن الحاج حسين. لم يترك ولعَه بأن يؤذن للفجر منذ فجر الاستقلال، كنا نسمّيه في مجالسنا الضيقة الفرّوج، من هذا الذي يملك جرأة أن يسمّيه كذلك في المجالس الموسّعة؟ وقد مات، أمي قالت لي ذلك وأنا في دمشق، قالته كخبر عابر، وهي تنقل لي في الهاتف أخبار الأسرة والمدينة، حتى تبعدني عن الإحساس بالموت، كنت أنتظر مكالمتها يوميًا، لا أعتقد أن انتظار غريق ليد تمتد إليه من خلال الموج، يمكن أن ينافس انتظاري لمكالمة أمي في الحرارة، لكن لماذا نقلتِ لي هذا الخبر يا الحاجة؟ استبدلت كلمة أمّي بالحاجة، لأنني كرهتها في تلك اللحظة، وعفويًا عاقبتها بأن جرّدتها من صفة الأمومة. ألا يكفيني أن أرى الموت هنا فوقي وتحتي، ويميني وشمالي، حتى تنقلي لي أخباره في الجزائر؟

آه.. كم بتّ أرى الجزائرَ حلمًا لا دم فيه، هل تموتون أنتم أيضًا في الجزائر يا الحاجّة؟ طرحتُ هذا السّؤال من قلبي، لأنني كنت أعتقد، داخل تلك اللحظة، أن الموت بات حكرًا على سوريا، ثم انتبهتُ إلى أنني طرحته أيضًا حتى أطمئن نفسي بأن أهلي بعيدون عن الموت. صار إحساسي ببعدهم عزاء، ماذا لو كانوا هنا؟ كان خوفي عليهم سيتحالف مع خوفي على عبد القادر، فينسف صومعة المسجد الأموي لا يعلوها فقط. تريدون الحقيقة؟ أعلم أنكم تريدونها في هذه اللحظة بالذات، لأن الإنسان يميل أكثر إلى الحقيقة حين يسمع أخبار الموت: كنتُ أجد في شموخ الصّومعة تحريضًا لي على أن أشمخ، لذلك فقد كنت أتفقدها يوميًا بعيني، أراها شامخة، فأرفعَ رأسي وأعتدلَ في وقفتي، كأنني أستجيب لأمر عسكري. لم أكن حريصة على الصلاة، مثل حرصي على أن تبقى الصومعة شامخة، سقوطها سيعني لي حتمًا أن الذاكرة بدأت تسقط في هذه الحرب، وهذا سيعزّز جدية تفكيري في العودة إلى الجزائر.

إلى غاية تلك اللحظة: كنت أحكم غلق ثقوب التفكير في العودة، مثلما أحكم غلق ثقوب البيت، ليلًا ونهارًا، حتى لا يدخل الموت على عبد القادر، قلت عبد القادر، ولم أذكر نفسي، لأنني لم أكن في تلك اللحظات أراني إلا حارستَه، ولم أكن أحرص على حياتي إلا من باب الحرص على حياته. هل تعلم الحرب أنها أرغمت البيت السوريَّ على أن يُغلق أبوابه ونوافذه ليلًا ونهارًا؟ منذ متى لم يفعلْ ذلك؟ هل يبقى البيت السوري سوريًا إذا ارتبط بالغلق؟ هل تعلم هذه المجنونة أنها قاسية إلى درجة أنها جعلت إحدى المآذن الثلاث تهوي/أهوي؟ 

هل الخوف الزائد يغذي وفرة الحليب في أثداء الأمهات؟ الأولى من هذا السّؤال أن أسأل: ماذا كنت سأفعل لأطعم عبد القادر، لو لم يتوفر الحليب في ثديي؟ كانا فائضين بالحليب مثلما كنت فائضة بالخوف، ولم يكن عبد القادر يبكي، تريدون وجهًا آخرَ من أوجه الحقيقة؟ كنت أجد في ابتسامته استفزازًا لي على أن أواجه الموت بشجاعة أمي، رغبتي في أن أحكي لكم عن شجاعتي، أقوى في هذه اللحظة، من رغبتي في أن أحكي لكم عن شجاعة أمي، في ثورة التحرير، ثم في مكافحة الإرهاب، أنا كنت أتوسد الموت وأنام، وكنت حين أصحو في لحظة من اللحظات، لم يعد في سوريا الصحو من النوم مرتبطًا بشروق الشمس، بل بشروق القنابل والبراميل المتفجرة، ولأن القنابل المجنونة يمكن أن تشرق في أي وقت، فقد بات الصحو من النوم، إذا حصل فعلًا، محتملاً في أية لحظة.

كنت أقول للموت إذا صحوت من نومي.. لأسمّه إغفاءة حتى أنسجم مع الحالة: ألم تأخذني بعد؟ شكرًا لك.. عبد القادر بحاجة إلي، تعلم أنك أخذتَ أباه، وأخذتَ عمّيه وسيم وصاعد، وسأقوم لأحضر لك شيئًا تأكله أيها الموت، تبدو جائعًا على طول، لم أجد في حياتي أكولًا لا يشبع مثلك، لكن هل ستكون كريمًا معي، فتحققَ لي رجاء؟ يا أيها الموت.. إنه رجاء، لن يتعبك إذا توفرت نيتك في أن تقوم بمعروف: إذا كان لا بد أن تأخذني في لحظة ما، فخذ عبد القادر قبلي، ليس قبلي، تعلم أنني لا أستطيع أن أراه ميتًا، خذنا معًا في اللحظة نفسِها، لن تحلو لي الجنة إذا تركته خلفي، هل ستفعل أيها الموت؟

بكى عبد القادر، منذ متى لم يبكِ؟ فتلقيتُ ذلك إشارة على أن الموت مد إليه يدَه، صحتُ: "خلّيه".. تحوّلتُ من مقام الرّجاء إلى مقام الأمر، طاردته في كل زوايا البيت، وأنا أقذفه بكل شيء يقع تحت يدي، ولم أنتبهْ إلى أنني كدتُ أن أرميه بعبد القادر إلا وأنا أرى بسمته، تصوّرتُ مصيره لو رميته، فهويت به على السرير، ولم أستطعْ أن أنفجر بالبكاء، كنت أبكي بلا دموع، وكان عبد القادر ينتج بسمة مبللة بالريق، فلم أدر هل أرى ريقه بسمة، أم دموعي التي خانتني. 

اقرأ/ي أيضًا:

الخريف من معارفي

طلاء