أطلق الغزو الروسي لأوكرانيا موجةً عالميةً من التسليح، منذ أيامه الأولى، وجاءت على مستوى شراء الأسلحة وإرسالها لكييف من جهة، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الداخلي على الأسلحة والميزانيات العسكرية، وكان من أبرز هذه التوجهات عالمية، ألمانيا، التي أعلنت عن رفع ميزانيتها العسكرية إلى أعلى المستويات، منذ الحرب العالمية الثانية، وبدأت بالتواصل مع عدة دول أوروبية وغربية من أجل شراء الأسلحة. 

أطلق الغزو الروسي لأوكرانيا، موجةً عالميةً من التسليح، منذ أيامه الأولى، وجاءت على مستوى شراء الأسلحة وإرسالها لكييف من جهة، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الداخلي على الأسلحة والميزانيات العسكرية

هذا تحديدًا كان محور تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بعنوان "هل تستطيع ألمانيا أن تصبح قوة عظمى"، وذلك من خلال تقريرها الذي واكب فعالية يوم الجيش الألماني، لحث الشباب الألماني على الانخراط في صفوف القوات المسلحة.

وتشير الصحيفة إلى أن ألمانيا بدأت بالتفكير في التهديد الروسي، قبل بداية غزو أوكرانيا في شباط/ فبراير من العام الماضي، وانطلق تحديدًا مع غزو روسيا لشبه جزيرة القرم، ومن ثم دعمها للمجموعات الانفصالية في دونباس، ومنذ ذلك الحين والقادة الألمان يفكرون في احتمالية نشوب حرب برية واسعة النطاق في في أوروبا، مما يتطلب أن يستعد الجنود الألمان للحرب.

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا، ليفاقم من هذه المخاوف، وفي حينها قال المستشار الألماني أولاف شولتز خلال خطاب أمام البرلمان إن الغزو هو "نقطة تحول تاريخية لأوروبا وألمانيا"، مضيفًا: "لا يمكن أن يكون هناك شك في أن بوتين أراد بناء إمبراطورية روسية"، متابعًا حديثه للألمان، قائلًا: "لذلك يجب على الألمان أن يسألوا، ما هي القدرات التي نحتاجها لمواجهة هذا التهديد؟". وفي ذلك الوقت أعلن عن إجراءات من بينها تأسيس صندوق بقيمة 100 مليار يورو لدعم الجيش الألماني، وهذه الخطة في حالة تنفيذها، ستمثل أكبر قفزة في الإنفاق العسكري الألماني منذ الحرب العالمية الثانية.

getty

وأوضحت "نيويورك تايمز"، أن كلام المستشار الألماني لقي دعمًا من قبل البرلمانيين، لم يكن متوقعًا أن يحصل قبل الحرب، فألمانيا بحسب الصحيفة تعد "نشازًا تاريخيًا داخل أوروبا"، فهي من ناحية قوية اقتصادية لكنها ضعيفة عسكريًا، والآن بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، تعهد القادة الألمان بتحويل البلاد إلى قوة عسكرية قادرة على تحمل مسؤولية أمن أوروبا.

وفي سياق التقرير، تطرح الصحيفة الأمريكية سؤالًا عما إذا كان القادة الألمان والمجتمع الألماني "المتردد"، قادرين على الوفاء بهذا الوعد؟

وتتابع، "في معظم أنحاء العالم، تعتبر الجنديّة فضيلةً، والقتال من أجل البلد أمرًا طبيعيًا لخدمته"، لكن في ألمانيا هى أقل من ذلك، حيث غالبًا ما يثير استخدام القوة العسكرية ذكريات مزعجة عن النازية، كما ساهم تورط أفراد من الجيش الألماني بقضايا متعلقة بقضايا اليمين المتطرف في تأجيج هذا الانزعاج، ففي السنوات الأخيرة، كانت حالات من التطرف اليمني سائدة بشكل خاص بين أفراد من القوات الخاصة في الجيش الألماني، وأبرز مثال عن ذلك، المحاولة التي جرت الشهر الماضي، من قبل تنظيم "مواطنو الرايخ"، للانقلاب على مؤسسات الحكم، وإعادة إحياء الرايخ، وضمت "خلية الأمير الذي نصب نفسه عددًا من الجنود السابقين في القوات الخاصة الألمانية".

حاولت الدعاية الروسية، أن تضرب القبول الألماني لخطة الإنفاق العسكري، وذلك من خلال تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في حزيران/ يونيو من العام الماضي "للأسف، هذا معروف من التاريخ، على الرغم من كونها أقلية يمينية راديكالية، إذ أن تعريف ألمانيا إلى حد كبير هو كرهها للقومية المتطرفة والعسكرة، لكن الأمر كان أيضًا مألوفًا عندما تم إطلاق الجيش الألماني من خلال إعادة تسليح ألمانيا الغربية في العام 1955، استجابةً للمخاوف الأمريكية والبريطانية بشأن الغزو السوفيتي المحتمل لألمانيا الغربية، كان الضباط يتألفون بالكامل تقريبًا من ضباط الفيرماخت القدامى، بما في ذلك رجال SS السابقين". 

في ذلك الحين، وبحسب النيويورك تايمز، صور القادة السوفيت إعادة إحياء الجيش الألماني على أنه "نزعة انتقامية فاشية"، و"عودة للهتلرية"، وجاءت مقاومة إعادة التسلح أيضًا من شريحة كبيرة من سكان ألمانيا الغربية المنهكة من الحرب، حيث كانوا يخشون، كما هو حال الكثيرين الآن، أن ذلك قد يستفز الروس. ومع ذلك، نما الجيش الألماني، بمساعدة التجنيد الإجباري، ليشمل ما يقارب من 500 ألف جندي، ليصبح أحد أكبر الجيوش في حلف الناتو خلال الحرب الباردة.

getty

وفي هذا السياق، صرحت وزيرة الدفاع الألمانية السابقة كريستين لامبرخت في أيلول/سبتمبر الماضي، بأن موقع بلادها على الساحة الدولية يحتّم عليها أن تصبح قوة عسكرية ريادية في أوروبا، وأضافت أن "هذا يرجع إلى حجمنا، وموقعنا الجغرافي والسياسي، وقوتنا الاقتصادية، باختصار أهميتنا تجعلنا قوة رائدة، سواء أحببنا ذلك أم لا، وفي المجال العسكري كذلك".

وأعلنت لامبرخت عن خطط لإنشاء ثلاث فرق عسكرية جاهزة للقتال بحلول أوائل ثلاثينات القرن الحالي، بالإضافة إلى تخفيف القيود الصارمة على صادرات الدفاع الألمانية، حتى تتمكن برلين من المشاركة بنشاط في مشاريع الدفاع الأوروبية.

ولطالما احتلت ألمانيا مكانًا مريحًا للغاية في العالم، حيث لديها اقتصاد يعتمد على التصدير، وتبيع سياراتها وآلاتها على نطاق واسع، بالإضافة للعديد من الدبابات والغواصات، باعتبارها واحدةً من أكبر مصدري الأسلحة في العالم. ولكن عندما يتعلق الأمر بمواجهة التهديدات الأمنية، فقد سمحت للحلفاء بأخذ زمام المبادرة، وأرسل القادة الألمان قوات إلى أفغانستان لكنهم تجنبوا إلى حد كبير الإشارة إليها على أنها "حرب"، حتى عندما شارك الجنود الألمان في قتال بري هناك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. 

يأتي هذا "الكره الألماني للقوة العسكرية"، تحديدًا من كونه مدعومًا بحقيقة أساسية وهي أن الدفاع عنها "مضمون من قبل القوى العظمى البارزة في العالم، الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي"، وقد حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وفشلت في الغالب، بإقناع الألمان وحلفاء أوروبيين آخرين بتقوية جيوشهم وتحقيق هدف الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو البالغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو هدف تسعى ألمانيا لتحقيقه منذ فترة طويلة.

وتشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن دور ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أدى إلى تشكيك شعبها في دور الجيش الألماني، فاعتاد الألمان على أن مهام الجيش تقتصر على الأعمال الإغاثية في حالات الكوارث، ومواجهة الأوبئة والفيضانات وحرائق الغابات، والمشاركة في المهمات في بلدان بعيدة، مثل أفغانستان ومالي. ونقلت الصحيفة عن وزيرة الدفاع الألمانية السابقة قولها إن "هذا القلق يحجب شيئًا أساسيًا، وهو أن ألمانيا تقود أوروبا بحكم الأمر الواقع، حتى عندما لا ترغب في ذلك، فألمانيا تتمتع بنفوذ يؤثر في استقرار أوروبا وأمنها، على الرغم من أنها حاولت في كثير من الأحيان تجنب هذا الدور".

رغم كل ما سبق، وتحديدًا خطابات وأفعال بوتين التي أصبحت أكثر عدوانية، إلّا أن ألمانيا تمسكت في شعار "التغيير عبر التجارة"،  واعتقد الألمان أن العملية الاقتصادية المتبادلة مع روسيا ستشجع على التحول الديمقراطي الروسي، أو على الأقل ستنتج نظام دولي قائم على القواعد يمنع الأعمال العدوانية.

getty

تتابع  الصحيفة الأمريكية حديثها، بالحديث حول عام 2015، والذي أصبحت فيه طموحات بوتين التوسعية واضحةً بشكلٍ متزايد، ومع ذلك، دعم المسؤولون الألمان خط أنابيب "نورد ستريم 2" الجديد الذي من شأنه أن يجلب الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، متجاوزًا خطوط الأنابيب الحالية في أوكرانيا "نورد ستريم 1"، الذي تم افتتاحه عام 2011، وتابع الألمان المشروع على الرغم من تحذيرات المشرعين الأمريكيين، الذين كانوا يخشون أن اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي أعطى بوتين نفوذًا أوسع. حيث ساعدت عائدات مشتريات الوقود الأحفوري الألمانية، الكرملين في تمويل التوسع العسكري، وفي الوقت نفسه، ظل الإنفاق العسكري الألماني كجزء من الناتج المحلي الإجمالي بالقرب من أدنى مستوى له بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح زعماء دول أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا، الذين عانوا من المحنة الجغرافية الكبيرة المتمثلة في الوقوع بين ألمانيا وروسيا، وسبق أن عانوا بشدة في ظل حكم كل من هتلر وستالين، غاضبين من نهج ألمانيا تجاه روسيا.

وفي سياق الحديث عن بناء خط الغاز نورد ستريم، تعود الصحيفة إلى عام 2006 حيث شبه وزير الدفاع البولندي آنذاك رادوسلاف سيكورسكي، خطط بناء أول خط أنابيب "نورد ستريم" باتفاق مولوتوف-ريبنتروب في عام 1939، وهى اتفاقية عدم اعتداء بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي، والتي قسمت أوروبا الشرقية إلى مناطق نفوذ. لكن ألمانيا، وبحسب التاريخ تعتقد أن "تكييف القوة الناعمة كان أكثر فعالية من ترهيب القوة الخشنة"، مرتكزةً إلى تجربة سياسة التقارب مع روسيا التي وضعتها الحكومة الاشتراكية الديمقراطية في نهاية الستينيات وسط مخاوف من اندلاع حرب نووية عالمية، على الرغم من أن ألمانيا الغربية احتفظت بجيش قوي لردع الغزو السوفيتي، إلّا أن قادة ألمانيا الغربية أصبحوا يعتقدون أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل كان حاسمًا لمنع قيام الحرب.

وبحسب الصحيفة، فإن فشل التصور الألماني، تكشف سريعًا من الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث أصبحت إخفاقات السياسة الألمانية واضحة حتى للألمان، كان الجيش الألماني يتألف من قوة قديمة قوامها حوالي 183 ألف جندي، ولم يكن الجنود الألمان يفتقرون إلى الأسلحة والذخيرة الثقيلة فحسب، بل افتقروا أيضًا إلى الأساسيات مثل السترات الواقية والخوذات وحقائب الظهر. وفي يوم الغزو، استخدم قائد الجيش الألماني الجنرال ألفونس ميس، صفحته على موقع لينكد للتعبير عن إحباطه، وكتب "الجيش الذي أتشرف بقيادته مكشوف إلى حد ما، هذا لا يشعر بالرضا!".

سريعًا ظهر انكشاف ألمانيا، وهو ما عبر عنه اعتراف الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في نيسان/أبريل من العام الماضي، وهو ديمقراطي اشتراكي شغل منصب وزير الخارجية في عهد أنجيلا ميركل، وكان مهندس سياسة ألمانيا تجاه روسيا، بارتكاب أخطاء، وقال للصحفيين في برلين "لقد تمسكنا بالجسور التي لم تعد روسيا تؤمن بها والتي حذرنا شركاؤنا منها"، وأضاف "لقد فشلنا في بناء بيت أوروبي مشترك يضم روسيا".

من جانبه، تعهد شولتز بتحقيق هدف الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو "من الآن فصاعدًا"، على الرغم من أن حكومته لم تلتزم منذ ذلك الحين بموعد محدد، ويعود ذلك جزئيًا إلى البيروقراطية الراسخة التي تجعل عملية إنفاق الأموال على الأسلحة بطيئةً للغاية، وفي حالة وفاء القادة الألمان بوعودهم، ستصبح ألمانيا ثالث أو رابع أكبر منفق عسكري في العالم.  وقبل الحرب، كانت مثل هذه الزيادة لا تحظى بشعبية كبيرة، لكن في استطلاع للرأي أجراه التلفزيون الألماني العام بعد فترة وجيزة من الغزو، أيد 69% من الألمان هذا الإجراء.

وفي 16 كانون/يناير من الشهر الجاري، استقالت وزيرة الدفاع الالمانية، التي  كانت قد تعرضت لانتقادات شديدة من المعارضة الألمانية المحافظة لفشلها في دعم الجيش الألماني بالسرعة الكافية، ولسلسلة من المواقف العامة المحرجة، ففي وقت مبكر من فترة ولايتها، أعلنت لامبرخت، قبل أسابيع قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، أن ألمانيا سترسل للأوكرانيين 5000 خوذة، وهى بحسبها "إشارة واضحة، نحن في صفك"، وخلف هذا الموقف حالة  من سخرية على نطاق واسع، ففي حديثه إلى الصحيفة  الألمانية "بيلد"، وصف رئيس بلدية كييف فيتالي كليتشكو، المساهمة بأنها "نكتة". 

تقول الصحيفة، لا يزال العديد من الألمان، وليس فقط دعاة السلام المتفانين، غير مدركين لمدى إحباط العديد من الأوكرانيين من السياسات الألمانية، ومدى إدراكهم أن هذه السياسات قد مكنت الغزو الحالي.

بالمقابل، حاولت الحكومة الألمانية إجراء تعويضات عن طريق إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، متجاوزةً بذلك ممارسة سابقة تتمثل في عدم تسليم الأسلحة إلى مناطق الصراع، وفي وقت سابق من هذا الشهر، تعهدت ألمانيا بتقديم 40 مركبة قتال مشاة، وبطارية صاروخ "باتريوت" لتعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية، لكن الأوكران ما زالوا غير راضين عن وتيرة ومدى تسليم الأسلحة الألمانية.

وتتابع الصحيفة الحديث بالإشارة إلى أنه لا يزال هناك إحجام واسع النطاق في ألمانيا عن تولي ألمانيا دورًا أكبر في الدفاع عن أوروبا، ففي استطلاع أجرته مؤسسة كوربر في آب/ أغسطس، جاءت فيه أن 52% من الألمان يعتقدون أن "على بلادهم الاستمرار في ممارسة ضبط النفس في الأزمات الدولية"، ورفض 68% فكرة أن ألمانيا يجب أن تصبح قوةً عسكريةً رائدةً في أوروبا. 

حاولت الحكومة الألمانية إجراء تعويضات عن طريق إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، متجاوزةً بذلك ممارسة سابقة تتمثل في عدم تسليم الأسلحة إلى مناطق الصراع

تشير الصحيفة إلى أن، النهج السلمي الألماني، كان تعويضًا للألمان، نظرًا لاتساع نطاق الجرائم في ظل الحكم النازي، ويعتبرون أن هذا النهج هو الطريق الأخلاقي للمضي قدمًا، لكن الكثير من الجدل داخل المؤسسات الاجتماعية المختلفة، يتركز الآن حول ما إذا كان الموقف الأخلاقي الصحيح هو التخلي عن هذا التقليد السلمي.