13-أبريل-2020

فنانون عراقيون (ألترا صوت)

عند مراجعة التاريخ وتصفح أوراقه المضمرة التي تشتملُ على مجمل الأحداث المهمّة، ومنها الأوبئة، نجد أن إسقاطاتها على الجانب الثقافي ألهمت المشتغلين في حقول الفنّ، أولئك الذين قدّموا أعمالًا تروي ما حدث بأسلوبٍ سوداويّ يُشير إلى الكارثة.

منتصف القرن الرابع عشر، كانت القارّة الأوروبية على موعدٍ مع "الطاعون" الذي حصد حياة ثلث سكّانها، وأفرز زمنًا جديدًا مختلفًا تمامًا، حيث تبدّلت أحوال المجتمع وانقلبت بطريقةٍ تتطلّب التوثيق بمختلف أشكاله ووسائله، لا سيما الفنّية منها، كونها تقدّم مشاهد بصرية تروي ما حدث، تمامًا كما فعلت لوحة "انتصار الموت" للفنّان الهولندي بيتر بوغل الذي صوّر عالمًا يطغى عليه الموت، حيث مئات الجماجم والهياكل العظيمة المبعثرة في كلّ مكان. ناهيك عمّا قدّمه تيتيان، وأنطوني فان ديك، ورامبرنت، وكارافاجيو وغيرهم من الفنّانين الذين قدّموا أعمالًا تُحاكي ما خلّفه الوباء من كوارث، وما تغيّر من قيمٍ بدا في وقتٍ ما أنّها ثابتة.

استعادة "الطاعون" تأتي في سياق مواجهة البشرية لوباء "كورونا" الذي فرض على الكوكب عزلةً شلّت الحياة تقريبًا في مختلف دول العالم، لا سيما تلك الموبوءة منها. وفي ظلّ هذه العزلة، يلجئ الناس إلى اختبار أشياء جديدة ومختلفة للتخفيف من وطأتها، بينما يستمرّ الفنّانون في التعامل مع الفنّ كمؤنس ووسيلة للحدّ من رتابة العزلة والحجر الصحيّ. في هذا الصدّد، لدى الفنّان العراقيّ ما يقوله في مواجهة العزلة، وتأثيرها إيجابًا أو سلبًا على الفنّ بصورةٍ عامّة. هنا آراء لـ أحمد البحراني وحيدر فاخر وزياد غازي وعلي النجار وعلي رشيد وفاطمة جودت.


أحمد البحراني.. الأرض تجتهد في إعادة ترتيب أوراقها

نمرّ اليوم بامتحان مبهم يتشارك به سكّان المعمورة قاطبة، حيث نواجه جميعًا عدوًّا غير مرئيٍّ، لا يميّز بين لون أو عرق أو تاريخ، ممّا يتطّلب منّا أن نكون جميعًا في جبهةٍ واحدة ضدّه. أتحدّث الآن وأنا أرى الجزء المملوء من الكأس، لأنّ الخسائر التي خلّفها "كورونا" تُقابلها بعض المكاسب، فالأرض اجتهدت في إعادة ترتيب أوراقها من جديد بعد أن ترهّلت بفعل التلوّث والعبث بمقتدرات الطبيعة من قبل الإنسان. أمّا بالنسبة لي فإنّني أيضًا أُعيد ترتيب الأشياء الخاصّة بي حيث أتاحت لي عزلتي أن أُبصر السلبيات تارةً، وأُحاول انتزاعها عنها تارةً أخرى.

وبصفتي فنّانًا يكون لزامًا عليّ أن أتخلص من التلطخ الذي يشوب المشهد البصري بكلّ ما هو "غثّ وسمين". لذلك أجد الآن فرصة مناسبة للتناظر مع النفس معتزلًا أشياء كنت أمارسها سابقًا، إذ أحاول حثّ نفسي على مراجعة ما أنتجته لسنين خلت، وإعادة التفكير به من جديد، حيث أدركت مؤخرًا أنّ عاطفتي دائمًا ما كانت تقودني إلى فعل أشياء يمكن وصفها بأنّها هشّة نوعًا ما. وفي النهاية، لدي ثقة كبيرة بأنّ القادم سيكون مختلفًا، وسيشكّل أساسًا لي ولكلّ فنّان يرغب في استثمار هذه المرحلة فنّيًا.

الفنان أحمد البحراني

حيدر فاخر.. هل المعتقدات المقدّسة هي سبيل النجاة الوحيد؟

الأزمات التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم تضغط بصورة أو بأخرى على جوانب الحياة المختلفة، ومنها الفنّ، وذلك بفعل الوسائط المتعدّدة المادية التي يعتمدها الفنّان لتلبية رغباته ومواجهة أي حالة طارئة. المتتبع لتاريخ الفن بكل أصنافه يدرك أنّ هذه الأشكال من الضغط تبلور أو تهيئ نماذج تصلح أن تكون قيمًا فنّية تحمل سمات مفاهيمية وجمالية ومتنوعة.

"فايروس كورونا" واحد من أكثر المستجدّات التي يعيشها سكّان الأرض خطورة، عدا أنّه يهدّدنا بموت جماعي أيضًا. وأنا هنا أقول إنّ ثنائية "الموت والحياة/ العقيدة والعلم" تقترن باستغلالها لأغلب الفنّانين، منهم من يكرّس جهده للتأكيد بأنّ العلم هو الخلاص والملاذ دائمًا، ومنهم من ينظر إلى المعتقدات التاريخية والمقدّسة على أنّها سبيل النجاة الوحيد.

أنا أعيش في منطقة معروفة بمعتقداتها المختلفة، وأرى أنّه من العسير التخلّص من هذه الثنائيات التي تؤثّر دائمًا على الفنّان ومنجزاته. إنّها "تيمية" متجذّرة في العقل الشعبي منذ القدم، وتوضع على الجسد لحمايته من طالع السوء إن كان مرتبطًا بالطبيعة أو بفعل الإنسان. عملي "حرز" هو ضمن المجموعة الخاصّة بي، أي سلسلة أعمال ملامسة مباشرة وأنثروبولوجية للمنطقة والهوية الدينية الشرقية.

الفنان حيدر فاخر

زياد غازي.. ما بين السرير وجدران البيت

كانت هناك نافذة صغيرة قريبة مني في البيت، تنتقل وتسير باتّجاه خطٍّ منحني قليلًا لا أراه، قضبانها كانت رشيقة وطويلة أشبه بنساء إيطاليا، متحرّكات رغم المشهد الصامت؛ القضبان تتحرّك بهدوء مثل لعبة قديمة كنّا نلعبها سابقًا "شدّة يا ورد شدّة" ما بين السرير وجدران البيت. وعلى خطوط المدينة العتيقة المكتظّة بالغناء المستمرّ وبالأصوات القريبة والبعيدة الممتلئة بالشغف الصاخب، كانت القضبان تتحرّك معي مثل خطوط الظلّ، ظلٌّ مبتسم راقص.

أينما أكون في طريقي حُجرة، بخاخ طبّي... اقتربت من النافذة ورقصات القضبان الساحرة، ولم أتمكّن من النظر، لا الشارع المغروس بالأصوات والأنفاس، ولا خطوط المدينة المتشابكة في زحمة السير. في أحد زوايا الشارع، هناك مُربع ليس صغير، لكنّه كثير الأصوات... وبدهشة. أصوات ابتعدت وأخرى اقتربت بوضوح تام، تنشد وتغنّي بطريقة مختلفة مرتبكة، لشخص لا يمتلك كمامة طبية أو قناع يحمي من تشظي مجهول... غير ساكن في هذا المربع. كانت الكمامات أشبه بالحمام الأبيض والأخضر فوق الرؤوس... هل لا زال الكثير منها؟ لا أعلم لأني في الحجرة.

الفنان زياد غازي

علي النجار.. أنا والوحش في حيّز واحد

حسنًا، حينما تخترقني هذه الكائنات المجهرية لتواصل مشوار تكاثرها في رئتي حدّ استهلاكها، هل سيتاح لي الوقت لأصف شعوري؟ أو للوم نفسي على عدم احترازي؟ أو حتّى لاستقصاء مصدرها أو الأخبار التي ستتوالى عن حجم المنافسة الشرسة لإلصاق تهمة نشر الفايروس بطرفي الهيمنة العالمي على السوق والمصالح الاستراتيجية دون النظر إلى الاستنزاف المفرط للمصادر الطبيعية أو ما يحدث في المختبرات الحيوية من نوايا تعديل وتحريف الجينات والطفرات الوراثية، وكم التلوث الهائل الذي تغلغل في المصادر الغذائية المصنّعة.

وهبتنا الطبيعة ذكاء مفرطًا، ولكن هل يعقل أن تترك مصيرها بين يدينا دون ضوابط إجرائية؟ البكتيريا الضارّة ومختلف أنواع الفايروسات المستوطنة والمصنّعة والتي تعيد صناعتها أو تعديلها الطبيعة من جديد، ما هي إلّا خطوط دفاعية لحمايتها. إذًا هو ذكاء موروث "البشر"، وذكاء طبيعي "الطبيعة". ولو نظرنا في الميزان لحجم الذكاء الطبيعي لاكتشفنا الفرق الشاسع ما بين حجميهما. إن ارتبط الذكاء الإنساني المفرط بالمصلحة دون النظر للعواقب، فقد تحدث الكارثة حتمًا. مؤتمرات "دافوس" المتتابعة مثلًا، تخبرنا بأن المتحكمين بمصائر العالم لا يأبهون سوى للنخبة (عشرون بالمائة من سكان العالم) وليذهب بقية البشر للجحيم.

هل يدار العالم بالروبوت المعقم كما يخططون؟ تخبرنا ما بعد الحداثة بحجم خسائرنا بعد أن قدمت لنا شظايا من هنا وهناك، وزرعت عدم اليقين في كل شيء، لكنها غفلت عن عدم يقيننا بها أيضًا. فإذا كانت قد نمت بعد الحربين العالميتين، وكنتيجة حتمية لمشروع مارشال الأمريكي الاقتصادي والثقافي؛ فإنّ حرب "كورونا" سوف تقودنا الى نبذ مفاهيم ما قبل اختراق مجالنا الحيوي. لذلك أعتقد أنّ ما بعد الحداثة التي بُشّر بها قبل عدة أعوام، ربما سوف تأخذ حيزها الكامل كنظام عالمي جديد. سوف يرجع للبشرية ولو بعض يقينها الذي لا بدّ منه لإدامة مشاعرها الإنسانية لا مصالحها المادية المتصارعة، ليس كأمل طوباوي بعيدًا عن الواقع والوقائع، بل على أسس واقعية تأخذ بالنظر حجم الزيف الذي مورس خلال الحقب المنصرمة.

وأعتقد سوف يكون للإنسان صوته ومجاله المعرفي والثقافي والفني الذي هو خلاصة التجارب المرة للكوارث اللاإنسانية المحبطة التي قادتها الخصخصة الشاملة والعبور على الإرث البشري، وليس الاقتصادية لوحدها. إنّه أمل يصبو لمحاولة بناء ارث نأمله أكثر انسانية. ربما أكون متفائلًا بعض الشيء، لكنني أعتقد أنها دورة تاريخية جديدة.

بعيدًا عن السياسة واللغط المصاحب للكارثة، وكفنّان أيضًا، وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام هذا الوحش غير المنظور بالرغم من أنني قابلت وحوشًا عديدة قبله. ربما لهذا السبب أجدني محصنًا بعض الشيء من القلق على مصيري وأنا في هذا العمر المتقدّم، بعد أن حجرت نفسي نسبيًا منذ أيام لا تتجاوز أصابع اليد وبعد أن انفضّ أصدقائي من ركننا المفضل في الصباحات أحيانًا. حسنًا هل لي أن أضع جدولًا لتمضية أوقاتي في معزلي هذا كما لو أنّني روبوت مبرمج؟ أم أدع نفسي وسجيتها التي تفاجئني أحيانًا بأفعال غالبًا ما تدهشني؟

ليكن الأمر كذلك ولأواصل عملي في تدوين يوميات الوباء رسومًا ورقية تحمل طزاجة وقع أثر الكارثة، وليبصم اللون والفعل المباشر أثرها الذي انغرس في ذاتي. وكعادتي أدع نفسي على سجيتها في الأخذ بتلابيب الفعل من جوانب عدة وكمحاورة سرية ما بين الشكل أو شبحه، وبين ما تخزنه نفسي من ردود الفعل التي عمقت نواياها حوادث الكارثة اليومية التي أتابع أخبارها. لكن هل يكفيني ذلك بعد أن نفذت خمسين عملًا ورقيًا؟ ماذا بشأن معاناتي في أيام الحجر المتأخرة بفعل مضاعفات النزلة الصدرية التي لا تزال آثارها باقية وأنا محصور ما بين جدران سكني التي تشبه مشفى صغير.

إن كنا منذورين للألم، فما علينا إلّا شقّ بطن هذا الألم والذهاب بعيدًا في مجال تفتيته أو تفتيتنا، فالكل سواء ما دام الذين يتحكمون في مصائرنا سادرين في غي تلويث كل نقاء. ربما أكون معكم اليوم أو غدًا، ربما أغادركم فأنا كما غيري لا نملك سوى وسائلنا التي نأمل أن تساهم في شفاء العالم من لوثته على قدر نوايا أفعالنا الفنية والثقافية وهي الأفعال الأصدق والأسمى.

الفنان علي النجار

علي رشيد... ما الذي يمكن أن يفعله الفنّ إزاء هذا الوحش؟

تبدو الحياة هشّة وعليلة ومستسلمة أمام فايروس "كورونا" الذي حوّل عالمنا إلى كابوس حقيقي ومفزع، بل فضح هشاشة هذا العالم، وضعف قدراته التي كانت تبدو كما لو أنّها محكمة بنضج معرفي وعلمي مطمئن. وسط هذا الخوف، وعزلة نصف سكّان الأرض، وانكفائهم إلى بيوتهم لممارسة عزلة تحميهم من الإصابة بالفايروس والموت، تثار العديد من الأسئلة: ما الذي يمكن أن يفعله الفنّ إزاء هذا الوحش؟ بل ما جدوى أي نتاج فنّي أو إبداعي بعد أن أغلقت المتاحف والمعارض أبوابها؟ وبعد أن بات التحدّي الحقيقي للبشر هو الحصول على كمية إضافية من الأرز لمواجهة مجاعة محتملة؟ وهل سيكون للفنّ فعليًا دورًا فعّالًا في مساعدة الناس والتخفيف من معاناتهم؟

سأتحدّث من واقع تجربتي الشخصية، فالعزلة بالنسبة لي شرط أساسي للعملية الإبداعية، ومراحل تنفيذ العمل الفني. العزلة للفنان هي زمنه الحقيقي في مواجهة زمن مضاد يرفضه في الغالب، لذلك يستعيض عنه بعزلته الافتراضية. لكنّني لا أنكر أنّ للعزلة في زمن الكورونا وجهًا آخر. حيث أصبحت شاحبة، مربكة، وغير مستقرة. لأنّها عزلة فرضت نفسها على البشر، بل مرتبطة بالترقب، والخوف من مجهول قريب منّا.

في المقابل لا يمكن مواجهة أي ظاهرة بالاستسلام والتقوقع، بل بالتغلّب عليها من خلال دراستها والإشارة إليها، واكتشاف مغامرات وطرق جديدة للبحث، وهذا ما ينطبق على الفنّ، لمقاومة الذعر وتعزيز الإرادة وتعويض الحجر والعزلة بالحجر الإبداعي، كما أوجدته إيطاليا الآن لمواجهة هذا السكون المريض للحياة من خلال نقل الصور والأفلام من المعارض، بالإضافة إلى الأعمال المسرحية للناس إلى بيوتهم بعدما تعذر عليهم الذهاب إليها.

هنا يصبح دور الفنّ كما كان منذ بدأ الخليقة، أداة لمواجهة المجهول والتغلّب عليه. هذه القناعة هي وراء ممارستي اليومية للرسم، ومحاولتي ايجاد لغة بصرية جديدة تؤرشف، بل تواجه زمن الكورونا، وخلق مشهدٍ نابض بالوجود بدلًا عن مشهده المنخور بالاعتلال.

الفنان علي رشيد

فاطمة جودت... الوباء مقدّمة لظهور نوع آخر من التعبير

ما يحدث الآن ما هو إلّا مُزاح زائل، حدث خارج عن الحدود، ولا يمكن السيطرة عليه من قبل إرادة الإنسان بالرغم من تراكم معرفته وخبراته العلمية. بالنسبة إلى الفنّانين، فإنّ هذا الوباء المتباين من حيث الانتشار، هو عند البعض مقدّمة لظهور نوع آخر من التعبير من ناحية الأسلوب، باعتباره أظهر وجهًا مشرقًا للحياة، حيث بدا متفائلًا بتشكيل تلك الخطوط الملوّنة مع تراصف الألوان مع لمحات بسيطة من السواد ليعطي جمالية للحدث، في حين تظهر بعض الآراء المختلفة، تلك التي ترى الوجه المظلم للحدث. القضية مرتبطة سيكولوجيًا بالفنّان وقراءته الحسّية للواقع وربّما المؤثّرات المحيطة به، خاصّة توفيق آخر بأسلوب يعكس البنى الداخلية في اللوحة بشكلٍ خاص كونها الأكثر تداولًا في الوقت الحالي، لذا إمّا أن تكون مريحة أو العكس.

دور الفنان مؤثّر إلى حدّ كبير في ظلّ الأزمة الراهنة، كون القضية تحتاج إلى تنوير بصري جمالي يصل إلى المتلقّي بطريقتين، منها التهويل المباشر فيحقق غايته أو يهدئ المظهر المروّع باستخدامه الجماليات الشكلية. هنا يكون للفنان كلمته المهمّة، خصوصًا أنّ قضية الحجر الصحي أخذت حيّزًا عالميًا، فأصبحت النافذة الإلكترونية هي المتنفّس الوحيد بالنسبة للمتلقّي أوّلًا، وللفنّان تحديدًا كونه الشخص الوحيد القادر على تلوين تلك النافذة بحسب أهدافه.

الفنانة فاطمة جودت

اقرأ/ي أيضًا:

النحات العراقي أحمد البحراني.. وسائد من البرونز

الفنّان العراقي علي رشيد.. في عتبة البياض وعلى حافة العتمة