15-نوفمبر-2017

شاطئ في كندا (getty)

ناعمة انكسارات عيون هذه النوارس التي حطّت قبل قليل. إنها تتأمّل وحل الشاطئ الأسود وقد استنقع بدبق البترول المرعب المتسرّب من الحروب ومن كوارث الناقلات العملاقة. أطرق بعض النوارس والبعض الآخر تأمّل وبكى. أجنحة نوارس أخرى تتخبّط متثاقلة في بحر من الدبق الأسود، وثمة لقالق ومالك حزين وحيد وبعض طيور بحرية غريبة؛ كلّها تموت ببطء وهي متفاجئة بهذه القيامة البليدة لمياه البحر. النوارس تتأمّل ولا تستطيع أن تفعل شيئًا لإنقاذ من يستأهلون الإنقاذ السريع. مرّت أيام والطيور في الدبق الأسود باتت أشباحًا مخلّعة وموتها بات اصطفافًا قويًا فوق رؤوس جنرالات الحروب وقباطنة الناقلات الثملين المنفوخين من أكل لحوم الأرض كلّها والمزوّقين بأوسمة ونياشين من كلّ الألوان ما عدا اللون الأسود.

*

وقف رجل إلى البحر ذات يوم فشاهد على صفحته الرائقة بلا سبب عظام حيتان طافية، تقدّم منها وحمل عظمة كان بياضها ينثّ بياضًا جميلًا وقال سأزرعها في بركتي المالحة لعلّي أشتّق منها سلالة حيتان قوية.

رمى الرجل العظمة في بركته المالحة وما سوى أيام حتى فاضت البركة على نفسها مجتاحة الجدران الأربعة، ثم تقدّم الحوت بمائه إلى البحر الوسيع ليجد في ما بعد العظام كلّها وقد تحلّقت من حوله طالبة منه تعلّم سلوك طريق التأهّب إلى الحياة من جديد. التفت الحوت الضخم إلى الشاطئ ليجد الرجل متسمّرًا في مكانه يرقب المشهد، لكن العظام البيض جَبُنَتْ عن التقدم في اتجاه الشاطئ ليسهل على الرجل حملها إلى حيث يشاء.

*

أوه، يا لهذا البحر الذي كلما مات ازداد حياة وغزارة وامتلاءً بالكائنات الكبيرة والصغيرة. ماؤك يجفّ فوقك ليعود إليك بقوة أعلى وأكثر نظافة ومهارة. أوه، يا لهذا البحر ألا تنتبه إلى دورة حياة وموتك على الخطّ نفسه؟ ليس لنا سواك على هذه اليابسة، تُقَبِّلها من جميع الجهات أو تقبّلك هي ساعة تشاء وتقول لك أحيانًا: لا تغضب. لأنه في حال غضبك، ستضطر هي لتطلّ من طرف آخر فيك، يكون بالتأكيد قد تخلّى عنك. أيها البحر كلّمني أرجوك ولا تكتف بالارتجاف المطمئن. أنت صديق نفسك وصديق اليابسة ومن عليها ، صديق الأموات والأحياء، الأموات الذين احتضنتهم من زمان أو احتضنتهم للتوّ وقد جاؤوا على متن غيمة فرطت عقدها فوقك. أيها البحر عندما تخشى الآخر تكون بالتأكيد قد خشيت نفسك وربما توليداتك لنفسك على خطّ نفسك.

*

 

إحدى أجمل اللحظات لديه هي أن يكون مع البحر في حالته الحريرية، التي تشبه صورة فتاة تنسقّ بفعالية موصولة النظر إليه. ساعتها يختفي البحر فيه وتختفي الفتاة أيضًا، ولا يبقى إلا هدوء اللحظات الجوهرية، أي العودة مجددًا إلى مائدة البحر.

الليلة، زاد احتمال انسحابه من عالم الناس بغية الانخراط في عالم الكائنات البحرية، وما سوى ساعات حتى كان له ما أراد. توارى في أعماق البحار لا يئنّ ولا يتوجّع، بل يترنّح فائضًا بالماء وبنفسه بغنجٍ متثاقل. اكتشف بعدها أن الماء هوى لا يمكن اجتيازه، أنه شبق نفسه، بشراسات دائمًا حنونة ورحيبة، لا تعرف ما الذي تحتضنه لكنها تهمي عليه بخيالات صاخبة ومميتة بيسرٍ يشبه لحظة ميلاد الأنثى من بياض نفسها. الماء يمتطي مظهره وهو يمتطي ظهر الماء، هكذا، إلى ما لا نهاية.

*

 

أنا والبحر. البحر وأنا. نجرع بعضنا بعضًا، كلّ يوم، ولا تتقلّص الحفلة، أما الشهود فلا معني لانتشار عيونهم إلا إذا هم أرادوا. ليس سوى البحر يحرّرني من شبقي. سأعطيه إذًا رجفتي الداخلية، خيطان أعصابي، قتامة شحوبي، وسخونة صمتي المفاجئ. يقبل مني البحر كلّ شيء، يقبل حتى العبث بكائناته الحية، لكنه لا يقبل البتّة قطع زياراتي له والمغامرة الصلبة في عبابه.

مراكب تغدو وأخرى تجيء، والماء هو هو، يحرث نفسه من دون عناء. فيه الراحة الأبدية، سواء تبخّر أم بقي على حريره الكثيف. الماء أعجوبة الماء، طيران الحياة، يفاعة الأشياء، والنصّ الكامل. الماء. أنا أنت، ندوس بعضنا، نشرب بعضنا، ونتحد أبدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صور مقطَّبة

في الهواء الفائض في رئة ما