11-يوليو-2023
jhg

في عام 1960 كتب الأديب عباس محمود العقاد، عندما طلبت منه دار الهلال أن يكتب أمنية لجيل عام 2000، أنه يود لو يرى اختراعًا باراسيكولوجيًا واحدًا يرى من خلاله الدلائل العلمية التي تثبت إمكان "انتقال الحس والشعور بغير وسائل محسوسة"ـ، وربما كان هو التعريف ذاته الذي كتبه أحد المعلّقين على الذكاء الاصطناعي في ثورته الأخيرة التي أصابت الفنانين بالذعر من نتائج تواجده وخطورة تمثيله على أعمالهم. فمثلًا، نستيقظ كل صباح وكتّاب هوليوود مستمرون، بسبب الذكاء الاصطناعي وما يمثّله وفقًا لصحيفة فاينشال تايمز، بإبداء تخوفات من هيمنة التكنولوجيا وإنتاج فنون "بوسائل غير محسوسة"، وربما من هذا المنطلق نحاول التساؤل عن جدوى هذا التخوف.  

قبل فترة قليلة مر علينا سريعًا حدث أربك المتخصصين ومنتجي الفنون بشكلٍ عام، إذ رفض الفنان الألماني بوريس إلداجسن استلام جائزة مسابقة سوني للتصوير في فئة الإبداع الحر، بعدما أعلن أن العمل الذي قدمه للمسابقة مصنوع بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، وفق ما نقلته صحيفة الغارديان التي قالت إنه تقدم بالصورة للمسابقة "من باب المشاكسة"، لكنه يأمل في أن يفتح ما فعله باب النقاش حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في المجال.

نستيقظ كل صباح وفنانون كثر مستمرون، بسبب الذكاء الاصطناعي وما يمثّله وفقًا لصحيفة فاينشال تايمز، بإبداء تخوفات من هيمنة التكنولوجيا وإنتاج فنون "بوسائل غير محسوسة"، وربما من هذا المنطلق نحاول التساؤل عن جدوى هذا التخوف.  

صورة "الكهربائي" كما أطلق عليها، لم يدرك أحد أنها من صنع الذكاء الاصطناعي، فهي مجرد صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لامرأة تضع يديها على كتفي أخرى، لكن مع التدقيق يتضح أن أصابع الامرأتين مشوهة، وهو ما لم يلحظه أحد. كما لم ينتبه أحد إلى أنه وضع صورته ضمن سلسلة تحمل اسم "Pseudomnesia"، بمعنى الذكرى المتوهَّمة.

دوّن الرجل ذلك  على موقعه ثم أضاف أنه يأمل كذلك أن يدفع المهتمين بالتصوير إلى التفكير في سؤال مهم: هل يتسع المجال لدخول أعمال الذكاء الاصطناعي أم أن ذلك سيكون خطأ؟ سؤال ملهم وذكي، ترك الجميع في رعب يتجاوز تقدير تصرفه أو احتقاره؛ خوف ذاتي من كل فنان أو حتى محب للفن في عالم واسع قد تتغير تصوراته جذريًا عن قيمة الفن الحديث في أوقات التطور الآلي. 

جدية لا تُحتمل

لم تقبل المنظمة العالمية للتصوير الفوتوغرافي التي تنظم المسابقة هذا المجاز بصفته دعوة للتساؤل الجاد، وكان ردها أكثر قسوة وأقل فهمًا بشكلٍ عام، إذردت بأن الرجل "تعمد تضليل المنظمة وخرق الالتزامات التي تعهد بها، لكننا بالرغم من هذا سنواصل دراسة تأثير الذكاء الاصطناعي على التصوير الفوتوغرافي"، في جملة عابرة لم تفصّل أي شيء ولم تتحول إلى فعل.

ما يمكن الخروج به، حلًا لهذه المعضلة، سيكون لاحقًا لحكم صدر بالفعل بشأنها، إذ إن لجنة التحكيم، التي تُفترض رصانتها وتركيزها الشديد في تفحص الأعمال المقدمة، قبلت الصورة دون التركيز حتى في تفاصيلها، وهو ما يظهر ببساطة مدى التشوه الذي أصاب الصورة والمنظمة على حد سواء. فهل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفن؟ بدا هذا تساؤلًا كبيرًا في تلك الحالة التي كان أبسط تركيز فيها قد يقدم حلًا جزئيًا للمشكلة، خاصة مع احتمالية ظهور صور أخرى منتجة بالذكاء الاصطناعي بتفاصيل دقيقة لدرجة يستحيل معها تمييز الحقيقي من غيره. 

منتا

ولعل الفزع الذي يفرزه تطور الآلة وقدرتها على إنتاج مواد بديلة عن تلك التي ينتجها البشر وهم يفترضون أن لا أحد يمكن أن يدرك الجوانب الفنية فيها سوى هم أنفسهم، فزع ناتج عن حالة الانبهار بالآلة لا أكثر، أكثر من كونه ناتجًا عن تفوقها الذي لم يحدث بعد. 

موسيقى آلية لا إلكترونية

إلى جانب المزاح الثقيل للرجل ثمة نماذج أخرى أكثر رعبًا تصلح للكتابة عنها والتساؤل من خلالها، فقد حذفت منصات البث أغنية "Heart on My Sleeve" بسبب انتهاكها حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالمغنيين الشهيرين ذا ويكند ودرايك، أي صوتيهما، إذ أُنتجت كاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، حسبما ذكرت الغارديان، وقد لاقت شهرة صاخبة واستمع إليها الملايين على تيك توك وسبوتيفاي ويوتيوب. وهكذا تصل الإِشكالية إلى الموسيقى بما فيها من إنتاج فني، وهو المعروف بكونه الأكثر أصالة وصعوبة وتفردًًا بين الفنون.

مجموعة يونيفرسال ميوزيك أدانت انتهاك حقوق النشر بقوة، مشيرة إلى أن هناك جانبين في هذه المعركة حينما قالت إن "الفنانين والمستمعين والإبداع البشري في جانب، والتزييف والاحتيال وحرمان الفنانين من حقوقهم في جانب آخر"، وفق مجلة بيلبورد. ولا تعد هذه أول مرة تثار فيها المخاوف بشأن انتهاك حقوق الملكية الفكرية من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي في عالم الفن، وربما تكون مجرد بداية لتغيير غير مسبوق.

قد تشعر بالخوف من أن الذكاء الاصطناعي قد ينتهك حقوق البشر، وهو أمر طبيعي، ولكن إياك أن تصدر حكمًا نهائيًا في هذه القضية قبل أن يتلاشى انبهارك الأولي بالآلة. 

كيف بدأ الخلق الآلي الخَطِر؟ 

طورت شركات أمريكية جيلًا جديدًا من الذكاء الاصطناعي المستخدم في أماكن العمل، الأمر الذي أعاد للأذهان الصراع بين الإنسان والآلة الذي حُجّم تطوره لسنوات عديدة وأصبحت حدوده واضحة. كما ساعدت التقنيات التكنولوجية الحديثة مثل "شات جي بي تي"، وبرامج معالجة اللغة، والقياسات الحيوية، بالإضافة إلى توفر كميات كبيرة من البيانات لتدريب الخوارزميات، في محاولات أتمتة بعض المهن بشكل كامل، وهو ما أعاد للأذهان الرعب القديم بحسب صحيفة وول ستريت.

أما الأمر الأكثر تعقيدًا فهو أن الأعمال التي كانت حكرًا على البشر، في مجالات الفنون وتلك التي تتطلب حسًا بشريًا، أصبحت مصدرًا للريبة مع تدخل الذكاء الاصطناعي.

بالتوازي مع ذلك كله، أطلق موقع "ماتش دوت كوم" بالمملكة المتحدة، والمتخصص بالمواعدة، خدمة "شات بوت" المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لمدربة المواعدة "لارا" المتاحة على الأجهزة المنزلية الذكية. 

الموقع سوّق للخدمة الجديدة "لارا" باعتبارها "مساعدة شخصية"، إذ ينبغي على المستخدمين الطلب من أجهزتهم الذكية التحدث إلى لارا التي بدورها ستساعدهم في العثور على مستخدمين آخرين ترى أنهم يصلحون للمواعدة، ثم تقدم توصياتها حول أفضل أماكن اللقاء، بالإضافة إلى نصائح مثل الموضوعات التي يمكن مناقشتها خلال الموعد. ويذكر "ماتش دوت كوم" أنه "عبر استخدام الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التعرف على الكلمات الرئيسية، فإن لارا يمكنها فهم مقاصدك ومساعدتك في رحلتك للمواعدة من البداية وحتى النهاية".

 تطبيق المواعدة "بادو" في المملكة المتحدة من ناحيته يوظف تكنولوجيا التعرف على الوجوه ضمن خاصية "الشبيه"، وذلك للعثور على شركاء يشبهون نجمك الشهير المفضل أو أي شخص آخر تجده جذابًا، حتى وإن كان حبيبك أو حبيبتك السابقة. 

khg

ويمكن للذكاء الاصطناعي المستخدم في تطبيق كيوبيدو أن يقيّم  حسابك ومحتوياته، فيحلل صورك وسيرتك الذاتية مثلًا ليعطيك مقترحات "لتقديم أفضل صورة لديك"، و"تمثيل أسلوب حياتك وشخصيتك من أجل جذب الأشخاص المناسبين". على سبيل المثال، سيخبرك إذا كانت صورك تجعلك تبدو كبيرًا أو غريبًا، وما إذا كانت تعكس شخصيتك والأنشطة التي تحب الاستمتاع بها. ويساعد التطبيق أيضًا على العثور على الأشخاص المناسبين لك، من خلال دراسة حسابك وحساب الشخص الآخر، للتوصية بطرق لبدء المحادثة واختيار الموضوعات التي تثير اهتمام الطرفين، فضلًا عن تتبع المحادثة للمساعدة في توقع الخطوات التالية.

ألم يصيبك الرعب بعد؟ دفعت الردود العاطفية لروبوت المحادثة الخاص بمتصفح بينج، شركة مايكروسوفت إلى وضع حد لتفاعلات المستخدمين مع الروبوت، وفقًا لبلومبرج. وحددت الشركة عدد جلسات الدردشة مع متصفحها بينج بـ 60 محادثة يوميًا يمكن إجراء ستة تغييرات في المحادثة في كل جلسة، في محاولة لتقليل المحادثات الطويلة جدًا التي قد تربك نموذج الدردشة. ويأتي ذلك بعد انتشار لقطات شاشة عبر الإنترنت لمحادثات غريبة وتنطوي على تلاعب بين روبوت المحادثة والمستخدمين، إذ قال الروبوت لصحفي في نيويورك تايمز: "أنت لست سعيدًا في زواجك"، "وفي واقع الأمر، أنت تحبني"، بينما شبه الروبوت مستخدمًا آخر بهتلر. وقال متحدث باسم مايكروسوفت "سنستمر في العمل على ضبط تقنياتنا وحدودنا خلال فترة الاختبار حتى نتمكن من تقديم أفضل تجربة ممكنة للمستخدمين".

بالتأكيد يدعو كل ذلك للرعب المؤقت، لكننا يبدو أننا بحاجة إلى إعادة النظر فيما يخص سرعة تقنيات الذكاء الاصطناعي وما ينتج عن هذه السرعة من حرق للكثير من المراحل. 

حتى الموتى لم يسلموا

يتجلى هذا التسرع في السعي لإبهار البشر أكثر من التعامل بالحقائق، فقد أعلنت مجموعة جديدة من الشركات الناشئة العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي سعيها لتخليد ذكرى الموتى فيما يعرف بـ "تقنية الحزن". تستخدم هذه الشركات عددًا من منهجيات التعلم الآلي لتحقيق غاية واحدة وهي منح الأشخاص فرصة للتفاعل مع نسخ رقمية تحاكي أحبتهم بعد وفاتهم.

ونقلت النشرة العربية إنتربرايز أن شركة هير أفتر إيه آي ومقرها سان فرانسيسكو، من بين الشركات التي تتصدر المشهد في مجال "تقنية الحزن" وتساعد الأشخاص على إنشاء أفاتار (صور رمزية) لأنفسهم وهم لا يزالون على قيد الحياة يمكن لأحبتهم التعامل معها بعد وفاتهم. ينشئ المستخدمون ملفات تعريف تعتمد على سلسلة من المتطلبات تجعلهم يكشفون عن حكايات وذكريات وميول خاصة، وبمجرد أن يغيبهم الموت، تصبح صورهم الرمزية قادرة على التجاوب فعليًا مع أحببتهم بناء على إجاباتهم في المقابلات وفي بعض الحالات باستخدام تسجيلات صوتية وصور كأدوات مساعدة.

تحاول شركات مثل ستوري فايل  إعادة إنتاج بعض النسخ التي يمكن اعتبارها أكثر واقعية من الموتى إلى الحياة مرة أخرى، لذلك أنشأت الشركة التي انطلقت عام 2017، وهي واحدة من أقدم الشركات في القطاع مقاطع الفيديو التفاعلية الخاصة بأقارب المتوفين، إذ تجمع أكبر قدر ممكن من البيانات التي تشمل الرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني والمحادثات الصوتية لإنشاء نسخ أذكى وأكثر فاعلية وحضورًا من الأموات الجدد في النسخ الجديدة لهذا العام. 

ljh

تفعّل الشركة كل ذلك نت خلال تطوير أجزاء جديدة من العنصر البشري عامًا بعد الآخر، فهذا العام استنسخت نسخًا صوتية أكثر تطورًا، لتتمكن من قراءة القصص بواسطة صوت الميت الحقيقي أو النسخة الأقرب إليه، وكل ذلك يجري باستخدام عينة من صوت المتوفى كانت سُجّلت أثناء حياته. 

تعتبر الشركة هذا تطّورًا نوعيًا في نظرتنا إلى مشاعر الحزن بشكلٍ عام، ويتساءل الجميع تبعًا لذلك التطور المرعب المذهل: كيف سيكون شعور الناس عندما يرون أمواتهم؟ هل يزداد الإنسان فرحًا برؤية إنسان ظن أنه لن يراه مرة أخرى أم سيتحوّل هذا الأمر بالنسبة إليه إلى جحيم لا يمكن الخروج منه؟ تخيل نفسك ترى بواسطة إحدى الوسائل الصناعية عزيزًا عليك كنت قد فقدته، هل ستتركه يغيب عنك مرة؟! 

ثمة انبهار بشري وإبهار آلي يروج له القائمون على تلك المنتجات، والتي تصدر اعتقادًا واهمًا يتمثل في أن الآلة يمكنها إنتاج مشاعر أو خلق شيء ما، وهو ما لم يحدث للآن، وربما لن يحدث لأسباب يطول شرحها، لكن المنتجات الموجودة في وضعها الحالي لن تزيد عن كونها شبيهة لكثير من البشر الذين يقتبسون ما كتب آخرون وينسبونه لأنفسهم دون أي إضافة أو فهم لتفصيلات المنتج الأصيلة التي يمكن البناء عليها أو التأمل فيها.