27-يونيو-2023
loiu

لكرة القدم خصوصيتها التي تجعل دخول الذكاء الاصطناعي إليها أمرًا معقدًا. (GETTY)

في شهر آذار/مارس من عام 1950، كان هناك محاسبٌ وضابطٌ عسكري يُعرف باسم "تشارلز ريب" يشاهد مباراةً في دوري الدرجة الثالثة من الدوري الإنجليزي بين فريقي سويندون تاون وبريستون سيتي. ويبدو أن ريب قد ضاق ذرعًا بالعقم الهجومي لدى الفريقين، أو ملّ من مجرّد مشاهدة المباراة، فجلب ورقةً وقلمًا، وبدأ يُحصي عدد التمريرات والتسديدات.

استنتج ريب وقتها أن معظم الأهداف تأتي من هجماتٍ لا تتجاوز عدد التمريرات فيها أربع تمريرات، وهو ما أصبح لاحقًا حجر زاوية الأسلوب الإنجليزي الذي يعتمد على التمريرات المباشرة الطويلة نحو مرمى الخصم.

يُعدّ ذلك ربما المحاولة المنهجية الأولى لجمع الإحصائيات والاسترشاد بها لـ"ترويض" فوضى كرة القدم، ولا شكّ أن ريب لم يكن يعرف أن تلك الأرقام البسيطة التي دوّنها قد آذنت ببداية عالمٍ ضخمٍ بالغ التعقيد هو الإحصائيات التي يحاول بها المحلّلون والجمهور، بهوسٍ لا نهاية له، تكميم كل جانبٍ من "اللعبة الجميلة" إذ أصبحنا اليوم لا نحسب مجرّد عدد التمريرات والتسديدات والدقائق، بل أصبح هناك الـxG (احتمال تسجيل الهدف)، ومعدّل الجري، والضغط، والعرضيات، والاعتراضات، ورميات التماس، وفي أي دقيقةٍ تدخل معظم الأهداف، والخرائط الحرارية، ومعدّل التسجيل والصناعة، والمواجهات التاريخية، بل حتى تتنبّأ الإحصائيات بنتيجة المباراة باستخدام بياناتٍ حية بناءً على النتائج السابقة لكل فريق، هذا غير الجانب الاقتصادي والمالي لكرة القدم، وكل ذلك ألزم الأندية الرياضية بالاستعانة بحملة شهادات الدكتوراة في الرياضيات والإحصاء والاحتمالات والاقتصاد ونظرية اللعبة وغير ذلك.

صحيحٌ أن الذكاء الاصطناعي قد اقتحم بالفعل عالم الرياضة، بل إنّه يُستخدم اليوم في رياضات ككرة القدم الأمريكية والبيسبول، وله تاريخٌ أعرق بكثير في رياضاتٍ أقل حركية مثل الشطرنج يعود إلى خمسينات القرن الماضي، ولكن كان لكرة القدم خصوصيتها، حتى في جمع الإحصائيات الذي تخلّف عن الرياضات الأخرى.

في ظلّ كل ذلك كان التساؤل البديهي، ونحن اليوم نعيش ثورة الذكاء الاصطناعي، عن التزاوج الذي قد يبدو حتميًا بين الرياضة والذكاء الاصطناعي، ولعلّ القارئ يتخيّل الآن أنشلوتي أو كلوب وهما يسألان مذعورين تشات جي بي تي عن كيفية قلب النتيجة في آخر 10 دقائق، أو ما هو أبعد من ذلك، دوريٌّ كلّ مدرّبيه هم برامج ذكاء اصطناعي.

الحقيقة هو أن هذا التزاوج، ككل الزيجات، معقّدٌ بعض الشيء وينطوي على الكثير من التفاصيل التي لا يمكن إهمالها. فصحيحٌ أن الذكاء الاصطناعي قد اقتحم بالفعل عالم الرياضة، بل إنّه يُستخدم اليوم في رياضات ككرة القدم الأمريكية والبيسبول، وله تاريخٌ أعرق بكثير في رياضاتٍ أقل حركية مثل الشطرنج يعود إلى خمسينات القرن الماضي، ولكن كان لكرة القدم خصوصيتها، حتى في جمع الإحصائيات الذي تخلّف عن الرياضات الأخرى.

ما المانع؟

تبدأ الإجابة على هذا السؤال من طبيعة كرة القدم نفسها، فعلى عكس رياضاتٍ مثل البيسبول أو كرة القدم الأمريكية، ذات الطابع الأكثر دورية، فإن كرة القدم هي رياضةٌ مستمرة وأكثر ديناميكية يكون فيها اتخاذ القرار أمرًا متكرّرًا في كل لحظة لكل لاعب (هل أمرّر أم أسدّد؟ لمن أمرّر؟ ما هي المساحة التي يجب تغطيتها؟ أين أتمركز؟ أين أسدّد الكرة؟...)، وبتعبيرٍ أقرب إلى لغة الإحصاءات فإن حجم المتغيّرات في الكرة أكبر بكثير من الرياضاتٍ الأخرى، وبذلك فإن محاولة حساب احتمالية ما سيحدث خلال الدقيقة أو الـ30 ثانية القادمة أمرٌ صعبٌ جدًا، ناهيك عن احتمالات الشوط أو المباراة أو الموسم.

أما السبب الآخر فله علاقةٌ بالميول التاريخية للقائمين على اللعبة، ولفهم المقصود هنا تذكّر أن معظم المدرّبين هم لاعبون سابقون، بل إن الاستثناء الذي يُنظر إليه بغرابة أن ترى مدرّبًا لم يجرّب لعب الكرة بنفسه، والقصد هنا أن كرة القدم اعتمدت أولًا على الخبرات والاختصاصات الإنسانية، بدلًا من محاولة بناء النظريات والمنهجيات، ولعل ذلك يتماشى مع الطبيعة الديناميكية لكرة القدم، بأن تركّز على ما يكون، أو التكتيك الذي ينجح عمليًا، بدلًا مما يجب أن يكون، أو التكتيك الذي ينجح نظريًا.

وحتى مع الاعتماد الهائل على البيانات، لا يُوجد حتى اليوم نادٍ كبيرٍ يجرؤ على الاستغناء عن طاقمه التدريبي البشري من مدرّبين ومحلّلين ومعدّين بدنيين وكشّافين تختلف اختصاصاتهم، كما يعرف المولعون بمتابعة كرة القدم. أي أن الكرة متردّدةٌ لا تزال بتجاوز الخط بين البشري والآلي.

في عام 2021، نشرت مجلة أبحاث الذكاء الاصطناعي (Journal of Artificial Intelligence Research) ورقةً محكّمةً كتبها مجموعةٌ من الباحثين بالتعاون بين نادي ليفربول الإنجليزي وشركة DeepMind، ذراع الذكاء الاصطناعي في غوغل، وكانت الورقة عن هذا الموضوع بالتحديد، وهي تقر بالفعل بوجود هذه العوائق في توظيف الذكاء الاصطناعي في كرة القدم.

اسمي تشات جي بي تي، وأعمل مساعد مدرّب

ولكن تحاول الورقة تجاوز هذه العراقيل بالتأسيس لما تسميّه مساعد المدرب المرئي الأوتوماتيكي (Automated Video Assistant Coach)

jh
(مصدر الصورة: DeepMind)

تذكر الورقة أن نادي ليفربول وافق على تزويد ديب مايند بكل البيانات المتعلّقة بكل مباراةٍ لعبها الفريق بين عامي 2017، و2019. وتذهب الورقة إلى أن استخدام بياناتٍ كهذه يساعد في تصميم ما أسمته مساعد مدرّب بناءً على ثلاثة أركان هي نظرية اللعبة التي تقوم على تحليل احتمال اتخاذ كل قرار ونسبة نجاحه من فشله، والإحصاءات، والقدرة على رصد الأحداث وتسجيلها وتدوينها باستخدام الحواسيب. تتداخل هذه الأركان الثلاثة فيما بينها لمحاكاة القرارات التي يمكن اتخاذها ونتائج هذه القرارات باستخدام الفيديو.

ما يجعل هذا الأمر متاحًا الآن أكثر من الماضي له علاقةٌ أيضًا بطبيعة برامج الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جي بي تي، التي لا تعمل إلا عن طريق التهام كمياتٍ هائلةٍ من البيانات، وهو ما يمكّنها من تقديم نتائج لها معنىً بشريٍّ يمكن الاستفادة منه. وفي سياق كرة القدم، فإن هذه العملية تتطلّب وجود أرشيفٍ طويلٍ من الإحصاءات والبيانات أصبح متوفرًا اليوم بعد عقودٍ من تدوين الإحصاءات وتوثيقها. يُضاف إلى ذلك وجود التكنولوجيا التي مكّنت القائمين على كل ذلك من تسجيل بياناتٍ معقّدةٍ وبشكلٍ فوري، ومن ذلك جسّ حركة اللاعبين باستخدام المجسّات البشرية، والقدرة على مشاهدة المباريات وتسجيلها فورًا باستخدام تقنياتٍ مثل البثّ المباشر، بالإضافة إلى القدرة على تتبّع كل لاعبٍ على حدة على أرض الملعب.

حسنًا، وماذا يعني كل ذلك؟ أو ما هي البيانات التي يمكن أن نستخدمها وكيف؟ ربما نستطيع أن نعطي مثالًا بسيطًا وهي الضربات الثابتة التي كانت أحد مداخل الذكاء الاصطناعي إلى كرة القدم كونها تقلّل حجم المتغيّرات بصورةٍ كبيرة بالتوازي أيضًا مع الأهمية المتزايدة للضربات الثابتة في كرة القدم الحديثة.

باستخدام هذا النموذج المقترح، حلل الفريق أكثر من 12 ألف ضربة جزاء نُفذّت في أوروبا، ومن ثم، باستخدام الأركان الثلاثة، صُنِّف ميول اللاعبين في اتخاذ ضربات الجزاء ومحاولة فهمها بناءً على عوامل أخرى كمركز اللاعب وغير ذلك، ووجد النموذج أن المهاجمين، مثلًا، يفضّلون استهداف الزاوية اليسرى السفلى من المرمى بمعدّلٍ أعلى من لاعبي خطّ الوسط الذين كانوا أكثر توازنًا بين اليمين واليسار. وفي النهاية استخلص الذكاء الاصطناعي أن الأفضل للاعب هو تسديد الكرة في الجانب الذي يرتاح له (وهي نتيجةٌ بديهيةٌ بكل تأكيد)، ولكن ربما يستطيع حارس المرمى الاسترشاد بنموذجٍ كهذا لتحديد الزاوية التي من الأفضل أن يقفز لها بناءً على مركز اللاعب الذي سيسدّد الكرة.

جانبٌ آخر يمكن الاستفادة منه هو محاولة التنبّؤ بنزعات اللاعبين، وتصحيح الأخطاء الهجومية أو الدفاعية. فباستخدام كل هذه البيانات يمكن مثلًا أن نحسب أن مبابي يميل إلى المرور من على يسار المدافع، أو أن حكيم زياش يميل أكثر إلى رفع الكرات العرضية منه إلى التسديد، وفي المقابل يمكن أن نرى أن آرون وان بيساكا يحبّ كثيرًا أن ينزلق، وكل هذه الاحتمالات والتكهّنات يمكن أن تفيد اللاعب في اتخاذ القرارات الصحيحة.

l'p;lok
نرى هنا مثلًا التقارب الكبير بين وقائع مباراةٍ ما وبين ما تمّ التنبّؤ به.

وعلى المستوى الجماعي والتكتيكي، يمكن لمساعد المدرّب القائم على الذكاء الاصطناعي أن يحسب أن الظهير الأيمن لفريق الخصم تهبط لياقته بشكل حادٍ بعد 70 دقيقة، ولذلك يُوصي المدرب بإجراء تبديل وإدخال جناحٍ جديد والتركيز على الهجوم من هذه الزاوية أو أن حارس فريق الخصم ضعيفٌ في الإمساك بالكرات العرضية الآتية من الضربات الحرة (مرةً أخرى، بناءً على الإحصائيات والتنبّؤات) ولهذا فمن المنطقي التركيز على نقطة الضعف هذه.

وتذهب الورقة إلى أن كل هذه المهام أو الفوائد تصبّ في مصلحة المدرّب الذي يستطيع الاستفادة منها خلال جريان المباراة، لأن الذكاء الاصطناعي سيستغرق وقتًا أقصر في تناول هذه البيانات ومعالجتها والخروج ببعض التوصيات، أي أنّ ذلك يمنح المدرب حلولًا أكثر بدلًا من استبدال وظيفة المدرّب نفسها، بالطبع، فضلًا عن تحليل نموذج الذكاء الاصطناعي مثلًا للبيانات قبل المباراة أو بعدها، أو مجريات الشوط الأول وتعديل التكتيكات في الشوط الثاني، ومن هنا يكون الذكاء الاصطناعي "مساعد مدرّب".

أحد الجوانب المهمة الأخرى التي يوَظّف الذكاء الاصطناعي فيها هي الصفقات واكتشاف المواهب، ولو نظرنا إلى أسعار اللاعبين المتضخّمة اليوم ورواتبهم، فإنّ اكتشاف المواهب أو الخوف من دفع أموالٍ طائلةٍ من أجل أن تحصل على سيناريو مشابهٍ لمسيرة هازارد في مدريد هو أمرٌ قد يُغري إدارات النوادي بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي.

أحد تطبيقات ذلك هو خدمة إي آي أباكس AI Abacus المصنوعة تحديدًا لتحديد الصفقة المثلى لفريقٍ ما. واجهة التطبيق شبيهةٌ جدًا بواجهة الـUltimate Team لمن يلعبون لعبة فيفا. تقوم الخدمة بحساب إحصاءات اللاعب وبناءً على ذلك قدرته على التكيّف مع الفريق أو حتى تشكيل ثنائيةٍ مع أحد لاعبي الفريق (كمولر وليفاندوفسكي مثلًا) بالاستناد إلى طريقة لعبه وإحصاءاته وقدرته على القيام بأمورٍ مثل الضغط أو الالتزام بالتكتيكات أو قدرته على الإبداع، بل حتى عوامل مثل اللغة والأمور القانونية.

بناءً على ذلك يقارن التطبيق بين لاعبٍ أو أكثر بناءً على قدرة اللاعب على التكيّف مع الفريق، وتناغمه مع اللاعبين الآخرين، وقيمة اللاعب بصفته استثمارًا ماليًا (مثلًا لو أعدنا بيع اللاعب فهل سيُباع بسعرٍ أعلى أم أقل من السعر الذي اشتريناه به).

oliujh
خدمة AI Abacus (المصدر: DW)

هل نريد حقًّا التنبّؤ بالكرة؟

لعل أحد الفوائد الكبيرة والمهمة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي مثل خدمة Ai Abacus هي إنصاف اللاعبين وقدراتهم، وتجاوز انحياز الكشّافين إلى جنسيةٍ أو قارةٍ ما دون غيرها، إضافةً إلى توسعة قاعدة اللاعبين التي يمكن اكتشافهم، وتسريع هذه العملية. كما أن ذلك قد يجعل اختيارات المدرّبين، من اختيار التشكيلة والتكتيك، أكثر منطقية واتساقًا إذا قلّصنا احتمالية الانحياز والخطأ بنفس الشاكلة. ويُضاف إلى ذلك أيضًا قدرة الأندية الصغيرة على مقارعة الأندية الكبيرة وتقليص الفجوة بينها بفضل الذكاء الاصطناعي.

ولكن يبقى هذا التساؤل ماثلًا كلما رأينا تطوّرات الذكاء الاصطناعي واستخداماته في شتى المجالات. ولعله سؤالٌ أكثر خصوصية في كرة القدم التي تتجسّد جماليتها في مفاجآتها وتقلّباتها، بل وحتى الأخطاء البشرية التي قد تحوّل أي مباراةٍ رتيبةٍ في لحظة إلى معتركٍ مثير. من الصعب أن نتخيّل أن ملاحم الريمونتادات، كملحمة إسطنبول 2005 أو برشلونة وباريس سان جيرمان، أو مفاجآتٍ، مثل فوز ليستر سيتي بالدوري الإنجليزي أو إقصاء روما لبرشلونة من دوري الأبطال، سيكون لها نفس الأثر في نفوسنا إذا كانت شيئًا يمكن تفسيره أو معرفة حدوثه.

وصف المحلّل "جيسن بيرت" ذات مرةٍ أسلوب يورجن كلوب مدرّب ليفربول بأنه "فوضى جميلة"، ولعل هذه الجمالية ستتبدّد سريعًا لو تحوّلت إلى شيءٍ مكمّم يمكن ترويضه والتنبّؤ به واستنساخه.