20-يونيو-2023
قارئ في المكتبة العامة

قارئ في المكتبة العامة

امتلك الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الجرأة والشجاعة لكي يعلنها بوضوح لجمهور القرّاء والكُتّاب والمثقفين من جميع أنحاء العالم: "إن الرجل الأكثر حكمة الذي عرفته في حياتي، هو رجل لا يعرف القراءة والكتابة!".

تحدث ساراماغو بهذه الكلمات الصاعقة، المُنقِصة والمزدرية لأصحاب الذوات المتضخمة ممن يرون في أنفسهم أفضلية عقلية على الآخرين، تدفعهم إلى النظر للعوام من علوٍ، فقط لأنهم يُصنفون كمثقفين أو روائيين أو صانعي رأي.

لم يخجل ساراماغو من إعلانها أمام الجمع الذي ينظر إليه بكل تبجيل وافتخار، وأمام الأكاديمية السويدية التي تسلمه جائزة نوبل عام 1998؛ أن الرجل الأكثر حكمة لم ينتمِ إليكم أيها الجمع من الصفوة، لم يقرأ أو يكتب، كان رجلًا أمّيًّا بسيطًا مثل ملايين البشر، رجلًا عاديًا من العوام كان الأكثر حكمة من كل الصفوة الممتلئة عقولهم بالأدب والتاريخ والتراث الإنساني، الذين ينظّرون ويتفلسفون ليل نهار ويصوغون الأفكار والقصص والأحلام، ويختارون من يستحق التكريم والفوز بالجوائز الأدبية.

في تحدّ لمجتمعات النخب الثقافية، قال الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو: "إن الرجل الأكثر حكمة الذي عرفته في حياتي، هو رجل لا يعرف القراءة والكتابة!"

تحدث ساراماغو عن جده الذي لا يقرأ ولا يكتب، "سيد المعرفة في العالم"، الذي تجلت حكمته في أسلوب حياته، وانعكست ببساطة في الطريقة التي يعيش بها ويتعامل بها مع ضروريات الحياة، وهكذا هناك حكماء لا مبالون بحكمتهم، وهناك كُتّاب ومفكرون لديهم القدرة على الملاحظة، ينقلون الحكمة التي يرصدونها أو التي يصلون إليها بعد تفكير عميق، لكنهم ليسوا بالضرورة الأكثر حكمة أو أصل الحكاية.

أعلن تطبيق أبجد، أحد أبرز تطبيقات القراءة الإلكترونية في العالم العربي، عن نتيجة الفائزين بتحدي أبجد للقراءة الذي أُعلن عنه الشهر الماضي، فاز بالمركز الأول حساب باسم "روكسي"، والذي تمكن من جمع أعلى عدد من النقاط، وتمكن من تحقيق أكبر معدل قراءة خلال فترة التحدي، حسب قواعد التطبيق.

شارك في تحدي القراءة الذي استمر لمدة 30 يومًا، حسب النتائج المعلنة، ما يزيد عن 5800 قارئ من مختلف بلدان الوطن العربي، قرأوا ما يزيد عن 105 ألف كتاب، بمعدل قراءة تجاوز 145 ألف ساعة قراءة.

أُعلن عن هوية صاحب حساب "روكسي"، أمل حسام، ولم يُعلن إذا كان شابًا أو فتاة، لكن في حوار صحفي عُقد معه أُشير إليه بضمير المذكر، لذا فهو شاب مصري من محافظة المنصورة يدرس بكلية التربية قسم اللغة الفرنسية، وحسب النتائج المعلنة، فقد تمكن روكسي من قراءة 1498 كتاب خلال 30 يومًا، بمعدل قراءة 50 كتاب في اليوم الواحد، أي أكثر من كتابين في الساعة الواحدة، لو افترضنا أنه لا يؤدي أي واجبات اجتماعية ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يدرس ولا يستحم ولا يتغوط.. ولا يتعطل عقله عن العمل. يقول روكسي إن أعلى معدل قراءة له 21 ساعة في اليوم، وكان عدد الساعات يقل أيام خوضه الامتحانات!".

بغض النظر عن عبثية كل هذه الأرقام المعلنة، لو سلّمنا بصحتها، وإذا مددنا الخط على استقامته، فهذا يعني أيضًا أن متوسط قراءة المشاركين في التحدي 18 كتابًا شهريًا، بمتوسط عدد ساعات 25 ساعة شهريًا، أي أن هناك 18 كتاب يُقرأون في 25 ساعة فقط، بمعنى أن متوسط قراءة الكتاب الواحد 83 دقيقة!

هذه الأرقام في عصر البيانات والسرعة والاستهلاك، تحيلنا مرة أخرى على الأسئلة القديمة التي تبحث عن الهدف والغاية من القراءة، وعمّا إذا كانت المعرفة كيفية أو كمّية، وكلما قرأت أكثر كلما اتسعت أفكارك ومداركك للعالم من حولك، هل نُعيد قراءة نص تأثرنا به ونتفكر فيه، أم نقرأ نصوص جديدة لجمع المعرفة، متى أصبحت المعرفة سلعة استهلاكية؟ هذه هي المعضلة.

تعمل النظم الحديثة ومن خلفها منظومة الاستثمار بمختلف مجالاتها، على إنماء الإحساس بالدونية لدى البشر والشعور بالمنافسة مع آخرين طوال الوقت

تعمل النظم الحديثة ومن خلفها منظومة الاستثمار بمختلف مجالاتها، على إنماء الإحساس بالدونية لدى البشر والشعور بالمنافسة مع آخرين طوال الوقت، حتى وإن كانت منافسة وهمية بلا طائل، من الضروري أن نضع الإنسان فوق آلة الركض، يدخل السباق الذي لا ينتهي، يدور في فلك متكرر، متاهة داخل متاهة داخل متاهة، ليجد نفسه في مكانه، وفي نهاية كل مرحلة نمنحه جائزة تافهة تعاظم من نرجسيته وشعوره بالتفوق والأفضلية قبل أن نحط من شأنه مجددًا ونرميه في منافسة جديدة وشعور جديد بالضحالة والدونية.. مبروك! جائزة القارئ العربي الأول، انتهت المنافسة، فلنبدأ العد من جديد، المنافسة على أشدها، فُز بالتحدي القادم لتثبت أنك الأفضل.

أشعر بالشفقة على روكسي، الفائز بجائزة أبجد لتحدي القراءة، ذلك الجامعي الذي جعل نفسه مادة للتجربة والاختبار في مقتبل عمره، وجعلوا منه نموذجًا للفخر والاحتفاء المزيفين، ومحطًّا للسخرية والاستهزاء اللذين لن ينساهما.

يومان ويُنسى روكسي بمكسبه غير المنطقي، ويبدأ تحدٍّ جديد لا يعنيه الدافع ولا الفائدة ولا التحليل ولا القيمة المضافة، يعنيه فقط الأرقام والبيانات والتنافسية والعائد المادي وتعزيز استمرارية المنظومة.