23-مايو-2023
من فيلم القارئ

من فيلم القارئ

في كتاب "مع بورخيس"، يروي ألبرتو مانغويل ذكرياته مع خورخي لويس بورخيس، الذي يعتبره أحد العقول الأدبية الأكثر رهافة في العالم.

يستعيد مانغويل في كتابه ذكرياته عندما كان عمره ستة عشر عامًا، وعينه بورخيس قارئًا من بين العديد من القراء الذين يقرؤون له في السنوات التي ضعف فيها بصره كثيرًا، وأصابه العمى.

يروي مانغويل أنّ عمى بورخيس بدأ وهو في عمر الثلاثين واشتد عليه في عيد ميلاده الثامن والخمسين، وأنّ هناك العديد ممن قرئوا له في سنوات اشتداد عماه التي امتدت من عام 1964 إلى 1968، ويُورد بأنّه نظرًا لحداثة سنة حينها، فإنّه لم يكن يعتبر لقاءاته مع قامة أدبية فذة كبورخيس حدثًا استثنائيًا، ويقول عن ذلك: "كنتُ أزور بورخيس ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع في الشقة الصغيرة التي يتقاسمها مع أمه والخادمة. فإني في تلك الأيام، لم أكن واعيًا لهذا الامتياز. كانت عمتي، التي أعجبت به للغاية، قد أصابها بعض الروع بسبب لامبالاتي وأخذت تحثني على تدوين ملاحظات والاحتفاظ بدفتر يوميات للقاءاتي به. لكن بالنسبة إليّ، لم تكن تلك الأمسيات مع بوخيس (في غطرسة مراهقتي) شيئًا استثنائيًا حقًّا، شيئًا غريبًا عن عالم الكتب الذي طالما افترضتُ أنه عالمي".

وإذا كانت زيادة رصيد القيمة المعرفية هي الشيء الذي كان يدفعه بورخيس لمانغويل مقابل قراءته له، فإنّ ذاكرة الكتب والأفلام مليئة بأشياء أخرى كان يُقدّمها أصحابها كثمن مستحقّ لِمن يقرأ لهم 

يؤكّد مانغويل في حديثه السابق على أنّه لم يكتشف تلك القيمة المعرفية التي أضافتها قراءته الكتب لبورخيس إلا بعد مرور زمن طويل، فهو يقرّ في كتابه بأنّ تجربة قراءته لبورخيس هي تجربة أضافت له الكثير على الصعيد المعرفي، فحواراته ونقاشاته مع بورخيس أثناء وبعد القراءة فتحت له آفاق فكرية عديدة، وكان لها أثر في كيفية تشكيله الأدبي والثقافي ولو أنّه لم يكتشف ذلك الأثر إلا بعد حين.

وإذا كانت زيادة رصيد القيمة المعرفية هي الشيء الذي كان يدفعه بورخيس لمانغويل مقابل قراءته له، فإنّ ذاكرة الكتب والأفلام مليئة بأشياء أخرى كان يُقدّمها أصحابها كثمن مستحقّ لِمن يقرأ لهم مقابل الحصول على الكنز المعرفي الذي تحتويه الكتب، ومن ذلك ما تورده رواية "القارئ" -التي تمّ تحويلها إلى فيلم- عن الجسد كثمن يُدفع للقراءة.

ففي الرواية يعقد الصبي المراهق ميخائيل بيرغ اتفاقًا مع قاطعة التذاكر في الحافلة العمومية هانا شميتر، التي لا تجيد القراءة والكتابة، ويتفقّ معها على أنْ يقرأ لها مقابل أن تمنحه جسدها، وكما يُورِد خليل صويلح في كتابه "َضدّ المكتبة" فإنّ الفتى "يأتي مندفعًا إلى بيتها كي يتذوّق طعم فاكهتها، فيما تُنصت هي بانتباه إلى شرايين الكلمات المفتوحة وهي تنبض بإيقاعات متوترة". فالرواية، بحسب صويلح، تفتح أعيننا على اللذة بوجهيها الحسّي والمعرفي، فلسان حال المرأة يقول للصبي "خذ جسدي وامنحني الكلمات"، أما الصبي فهو "يتعلّق بها بجنون وشبق بما يوازي هوسها في الإنصات إلى محتويات الكتب"، فتكون قراءته لها بمثابة "نزهات طويلة: القراءة تسبق ممارسة الحبّ. علاقة مشروطة في كسر دائرة الحرمان المتبادل".

وفي سياق آخر، تُبهرني دائمًا صورة أحبّها لامرأة تتخّذ من كتف رجل ما مسندًا لرأسها، تسنده عليه وهما جالسان معًا، هو يُمسك كتابًا، وهي في وضعية الإنصات لما يقرأ لها، تذكّرني هذه الصورة بكلمات الشاعرة الكويتية سعاد الصباح في قصيدتها "كن صديقي" التي تقول فيها: "فإنّ كلّ امرأةٍ في الأرض تحتاجُ إلى صوتٍ ذكيٍ وعميق.. وإلى النوم على صدر بيانو أو كتاب.. فلماذا تُهمل البعد الثقافيّ.. وتُعنى بتفاصيل الثياب؟".

كأنّ الصبّاح في هذا المقطع من القصيدة تعترف بأنّ هناك احتياجًا فطريًّا ملازمًا للمرأة إلى ذلك الصوت العميق الذكي الذي يقرأ لها دائمًا، ويُنبّهها بأنّها في كينونتها أكثر من واقع جسدي، وأكبر من حقيقة فيزيقية ملموسة، وكأنّ الكتاب هنا يحضر بصفته رجل المرأة الذي تستطيع أن تغفو على صدره عندما تقرأه كأنّه هو من يقرأ لها، دون أن يطالبها بثمن، ودون أن تحتاج أن توجّه له سؤال وجودها الدائم: "لماذا تهتمُ بشكلي ولا تُدرك عقلي؟".