11-مايو-2023
متجر محمد عزيز في المغرب

متجر محمد عزيز في المغرب

لمتاجر الكتب بُعدان: الواجهة والمستودع.

من الجائز أن ننظر إلى البعد الأول بوصفه بدايةً، لكن من الجور أن نرى البعد الثاني بوصفه نهايةً!

لكلٍّ من هذين البعدين قارئه الذي يختلف عن الآخر من حيث شغفه بالكتب، أو انشغاله بالمعرفة. لكنّ قارئ واجهة المكتبة، ذلك المتابع المواظب لكل الإصدارات الحديثة، المتزوِّد الدائم من منشورات الدور الناشطة في الوقت الحالي؛ قلما يفاجئنا، لأنه يأتي بما نعرفه إذا كنّا من جماعة الكتب والقراءة (والقرّاء جماعة في النهاية)، في حين أنّ قارئ المستودع هو المدهش والفاتن، لأنه صاحب لُقىً واكتشافات.

يقوم كلُّ قارئ مستودع على إدهاش قارئ المستودع الآخر، لأنّ في كل مدينة، وفي كل جيل، وفي كل لغة، مستودع قابل للاكتشاف، نرى قرّاء الواجهات يتفاعلون مع بعضهم البعض دون تلك الحماسة، لأنّ حق الاكتشاف محصور بالواجهة نفسها

قارئ الواجهة هو قارئ التيار السائد، وهذا التيار نوعان عمومًا، يمكن تقسيمهما إلى قسمين: محافظ ومنفتح. ويمكن تقسيم كل من القسمين إلى أقسام عدة. ولأنّ هذا ليس مجالًا لذلك نكتفي بالقسمين الكبيرين للضرورة فقط، وبهذا نجد أنَّ لكلٍّ منهما كتبه وكتّابه وناشريه ونوادي قراءته ونقاشاته.

بهذا المعنى نجد قارئ الواجهة، من كلا التيارين السائدين، متوافقًا مع جماعته في كل شيء، ويعيش معهم في سلام، مثلما هو متوافق قبل ذلك مع نفسه ومنظوره للوجود ككلّ.

بينما يقوم كلُّ قارئ مستودع على إدهاش قارئ المستودع الآخر، لأنّ في كل مدينة، وفي كل جيل، وفي كل لغة، مستودعًا قابلًا للاكتشاف، نرى قرّاء الواجهات يتفاعلون مع بعضهم البعض دون تلك الحماسة، لأنّ حق الاكتشاف محصور بالواجهة نفسها.

وقارئ المستودع في داخله باحث. إنه الخَلَف الأمثل للورّاق الكلاسيكي. علاقته مع الكتاب أقرب إلى مسألة حياة أو موت، فهو يشعر أنه وُلد ليقرأ، وأنه يقرأ كما لو أنه يبحث عن اسمه أو وجهه. وخلال هذا البحث يستكشف أعمالًا نُشرت من دور محتجبة، أو من مؤسسات لا تحظى بمتابعة جماهيرية، كأنْ تراه يقرأ منشورات صدرت عن نقابة أو حزب. هكذا يُعيد تعريف نفسه مع كلّ كتاب من جديد.

وإذا ما بحثنا عن الاختلاف بين القارئين فسنجده عائدًا إلى تكوينهما النفسي، فالأول شخص عالمه مقفل ولا يفكر بتغييره، والثاني منفتحٌ ويخلو تمامًا من أي انغلاق.

الأول لا يريد ما يشوّش على فهمه لذاته وللحياة والمجتمع، ولذلك يرغب بتناول كتاباتٍ واضحة لا غموض فيها، وهذا ما يوجد عادةً في الكتب الرائجة الموجودة على الواجهات، بينما يُبدي الآخر استعدادًا للتغير والتحول، ولهذا لا يتوقف عن رحلته في البحث والاستكشاف.

يمكن توزيع المؤلفين أنفسهم بين كتّابٍ للواجهة وكتّابٍ للمستودع، وعلى هذا يمكننا أن نضع خالد حسيني وإيلينا فيرانتي وأمين معلوف أمثلةً على كتّاب الواجهة، في مقابل وضع كافكا وساراماغو في المستودع.

هناك تجارب غريبة لكاتب واحد يمكن تقسيم أعماله بين البعدين، والمثال الأوضح هو هاروكي موراكامي، الذي تراه مشهورًا في رواية مثل "كافكا على الشاطئ"، التي تجعله يتصدر الواجهة بكل قوة، ولكنه كاتب من كتّاب المستودع في رواية فذة لا يبالي بها القرّاء كثيرًا مثل روايته "يوميات طائر الزنبرك".

يمكن توزيع المؤلفين أنفسهم بين كتّابٍ للواجهة وكتّابٍ للمستودع، وعلى هذا يمكننا أن نضع خالد حسيني وإيلينا فيرانتي وأمين معلوف أمثلةً على كتّاب الواجهة، في مقابل وضع كافكا وساراماغو في المستودع

وما نقوله عن التأليف يمكن أن نقوله أيضًا عن الترجمة، ومثالنا هو روايات دوستويفسكي، التي احتلت الواجهة بأسماء مترجمات ومترجمين مختلفين، لكنّ ترجمات سامي الدروبي التي وضعها بعض الكُتبيين في المستودع تظلّ هي الأفضل بلا منازع، ففوق كل ما فيها من قوة وصلابة وجدّة وجدية؛ علامتها الأبرز أنّ دوستويفسكي يتكلّم العربية.

ولا تقتصر هذه التقسيمة على كتب الأدب، بل هناك كتب علمية وتاريخية مثل "العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري" أو "موجز تاريخ كل شيء تقريبًا" أو "تاريخ الشعوب العربية".. تتربّع على الواجهات دون أن تحرّض قرّاءها كي يذهبوا إلى كتب من النوع نفسه، فيما لا تتوقف كتب المستودع عن توريطنا بكتب أخرى.

يحدث أن يتسلل قارئ المستودع إلى الواجهة بين حين وآخر، أو ينتظر، كالصياد المتربص، حتى تسقط كتبها بعد زمن، عنده، في المستودع، لكنه يشهد بأمّ العين، وهنا يُسجّل تفوقه على نظيره، أنّ المستودع لا يحتفظ بكل ما يأتيه من رفوف الواجهة.