26-أكتوبر-2016

غرافيتي بوب ديلان لـ كاتي ويس

الشاب النحيل الأبيض الذي ينحدر من أصول تركية-يهودية، بدأ حياته المهنية عازفًا صغيرًا في مقهى على بعد عدة مبان من الجامعة، في فريق دنكي لموسيقى الفولك الأمريكية، كان يقدم نفسه باسم بوب ديلان تأثرًا بتوماس ديلان المؤلف الموسيقي والشاعر الويلزي.

تحولت أغنية دبلن "في مهب الريح" إلى نشيد في المظاهرات ضد الحروب

أما ما فجر شعبية ديلان الحقيقية فكانت أغنيته "في مهب الريح" وغيرها من أغاني فترة الستينيات، التي تحولت كلماتها إلى أناشيد في مسيرات الحريات المدنية والمظاهرات ضد الحروب.

اقرأ/ي أيضًا: نوبل للآداب 2016.. للمُحتج بوب ديلان

الفتى آلان زيمرمان، أو بوب ديلان، استطاع أن يكتب اسمه على جدران الشهرة في أمريكا، بعد أن وُصف بأنه واحد من أهم مئة شخصية في القرن العشرين، وقد قالت عنه هيئة محكمي جائزة بولتزر في توصياتها له بمنحه الجائزة: "بسبب تأثيره العميق في الموسيقى والثقافة الأمريكية الذي تميز بمحتوى شعري قوي غير عادي". 

ديلان إذن هو المعادل الموضوعي للأبنودي في الثقافة العربية، فعلى مدى ستة أجيال لعب دورًا محوريًا في الموسيقى الشعبية لبلده إلا أنه يغني ما يعزفه، وكان يجمع بشكل غير مألوف بين الغيتار والهارمونيكا، ما يعني أن التجديد الذي أدخله ديلان على الموسيقى كان بصفته عازفًا وشاعرًا معًا، يجمع في كلماته بين المحتوى الفلسفي والأدبي والسياسي، في تطوير لم يسبقه إليه كثيرون، وإن سبقه أحد ما فهو ليس بشهرته.

كتب ديلان في أغنيته الأشهر والأهم "في مهب الريح- Blowin' In The Wind" يقول: 
"كم من الطرقات يجب أن يسيرها الرجل 
قبل أن نسميه رجلًا؟
وكم من السماوات يجب أن تطيرها الحمامة البيضاء 
قبل أن تستريح في الرمال؟
نعم وإلى كم من الأهداف يجب أن تقذف 
كرات المدافع قبل أن تصبح ممنوعة إلى الأبد؟
الإجابة يا صديقي في مهب الريح 
في مهب الريح.."

أما أغنيته "في الأوقات التي تتغير- the time they are a- chanin"، التي سجلها في أستوديوهات كولومبيا عام 1963 في نيويورك، فاستخدمت كشعار لحركات التغيير في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، واستخدمت فيها أداة التعريف (a) كأداة للتوكيد عفى عليها الزمن، كانت تُستخدم في القرنين الثامن والتاسع عشر في بريطانيا. عن الأغنية قال الناقد مايكل غراي "إنها النموذج الكلاسيكي للاعتراض"، وقد علق ديلان على أنها الكلمات التي يريد أن يسمعها الناس، ليصل بالفكرة التي لا صوت لها إلى قلب الجموع في الشارع، تقول الأغنية :

"أيها الناس اجتمعوا هنا 
أينما كنتم تتجولون 
واعترفوا أن المياه حولكم 
أنتم من ملأها 
واقبلوا أنكم ستُنقعون فيها حتى العظام 
فإذا كان الوقت بالنسبة لكم 
أمر يستحق أن توفروه 
فمن الأفضل أن تبدؤوا السباحة وإلا غرقتكم 
كالأحجار/فالوقت يمضي ويتغير" 

وتقول: "أيها الكتاب والنقاد الذين يتنبؤون بأقلامهم/ افتحوا عيونكم على اتساعها/ فلربما لن تأتي الفرصة مجددًا".

كان بوب ديلان يريد أن يصل بالفكرة التي لا صوت لها إلى قلب الجموع في الشارع

اقرأ/ي أيضًا: هل بوسع ديلان رفض جائزة نوبل؟

أما أغنيته التي تخطت أمريكا ووصلت إلى شعبية عالمية فكانت "كالحجر الدوار- Like a Rolling Ston"، التي ترددت تسجيلات كولومبيا لكونها بطول ست دقائق ثقيلة على المسامع، كما اعتقد القائمون على المؤسسة، إلا أنها احتلت المرتبة الثانية في الـ بيل بورد Billboard charts، أو سباقات الأغاني في الولايات المتحدة الأمريكية، تقول كلماتها: "ذات مرة حين ارتديت أفضل ملابسك/ ورميت بقرش إلى صعلوك متسول في بداية حياتك.. ألم تفعل؟/ قد يناديك الناس/ أيها الغض كن حذرًا/ كن واعيًا/ أنت على وشك السقوط/ ولكنك ظننتهم يسخرون/ وكنت تضحك منهم/ فالكل يتسلى / ولكنك الآن لا ترفع صوتك/ لا تبدو فخورًا/ أنت الآن تستجدي لوجبتك التالية".

ديلان ونوبل 

هل كانت مفاجأة حقًا أن يحصل ديلان على نوبل في الأدب؟ الإجابة: لا ببساطة، بعد قليل من البحث ومحاولة الحصول على إجابات نجد أن طاغور، سبقه إليها عام 1913، وهو شاعر بنغالي متعدد الثقافات والمواهب أعاد تشكيل الأدب البنغالي والموسيقى، واضعًا الفن الهندي في السياق العصري في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وقد كان أول شخص غير أوروبي يحصل على نوبل في ذلك الوقت. كان تجديد طاغور في الشعر بكسر قوالب الشعر الكلاسيكي ومقاومة هياكل اللغة الهندية وتطويعها للعصرية. بينما كان ديلان يخاطب الشارع والمشاة العابرين كان طاغور يسأل الرب، ويسأل نفسه أسئلة وجودية محلقة فيقول في قصيدته "أتساءل أحيانًا": "أتساءل أحيانًا.. أين يختفي الكذب؟/حدود الإقرار الضمني بين الإنسان والوحش حيث لا لغة للكلام/ وفي أي جنة بدائية للخلق الأول/ تركض قلوب الذي يتزاورون/ علامات خطواتهم الثابتة/ التي لم يطمسها خطوات أهل لهم/ وفجأة وسط الموسيقى الخرساء/ تستيقظ ذكرى هامسة/ ويشخص بصر الوحش في وجه الإنسان بثقة رائقة/ فينظر له الإنسان بعينين حانيتين".

وإلى جانب الشعر، كان طاغور روائيًا وكاتب قصص قصيرة ومقالات ومئات الأغنيات. ومن المعروف أن جامعة هارفارد بالتعاون مع جامعة فيسفا باهاراتي في الهند، تعاونتا لنشر جميع أعماله التي تتكون من 80 جزءًا، مرتبة حسب تاريخ نشرها، وتعد أطول وأهم مجموعة أعمال لطاغور بالإنجليزية في العالم. طاغور كان قيمة حقيقية فلسفية وأدبية عميقة وليس فقط كاتبًا للأغاني. 

إيمان بوب ديلان كبير بالمشروع الصهيوني، وفي الوقت نفسه يقف إلى جانب مع حقوق الإنسان!

فوز بوب ديلان لنوبل يطرح عدة إشكاليات عن الرسائل التي تريد إرسالها الأكاديمية السويدية المسؤولة عن اختيار الفائزين، فهي في بداية الأمر تضع جنبًا كاتب الموسيقى والمغني الشعبي إلى جوار الأديب والشاعر، كما اعتبرته بمستوى أصحاب التجارب الأكثر عمقًا في تاريخ الشعر بدليل. وكذلك هي ترسخ الإعجاب بمفهوم وفكرة حضارة الرجل الأبيض المستعمِر المستوطن، وليس هذا الرأي نابعًا من الأصول اليهودية لديلان، بل من إيمانه الكبير بالمشروع الصهيوني الذي يحتضنه ذات الفن الذي وُصف بالوقوف جنبًا إلى جنب مع حقوق الإنسان، على الرغم من إعادته شخصيًا التفكير في يهوديته مرات ومرات إلا أنه كتب عام أغنية 1983 "فتوة الجوار" التي وصف فيها إسرائيل بأنها "الفتوة" لأنها تدافع عن نفسها ضد جيرانها المتوحشين". وقامت حركات المقاطعة "مقاطعة إسرائيل" بالضغط عليه حتى امتنع عن الغناء في إسرائيل حتى إشعار آخر. حسب موقع التليغرافيك جويش

تقول كلمات الأغنية التي استعارها من كلمات بنيامين نتنياهو حسب الموقع: "فتوة الجوار/ رجل واحد فقط/ يقول أعداؤه إنه على أرضهم/ ويقولون إنه عدد زائد مليون مقابل واحد/ ليس له مكان ليذهب إليه/ لا مكان ليهرب إليه/ إنه فتوة الجوار". وتقول الأغنية ذاتها في مقطع آخر في دعم حملة حزب "إسرائيل بيتنا"، وكان وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت يقود حملة عام 2015 يحث فيها الإسرائيليين على التوقف عن الاعتذار عن دفاعهم عن أنفسهم. يقول المقطع: "أزال حبل مشنقة فانتقدوه/ نساء عجوزات اتهموه وقالوا/ إنه يجب أن يعتذر/ ثم دمر مصنع متفجرات/ ولم يمتن لذلك أحد/ المتفجرات كانت له/ لكنه كان يجب أن يشعر بالسوء لفعلته/ ولكنه فتوة الجوار".

إشكال آخر تطرحه الجائزة، بناء على ما سبق، وهو هل تنفصل القيمة الأخلاقية عن الإبداع؟ هل كل فن مع الحريات وضد الحرب هو بالضرورة تعبير كامل عن القيمة نفسها لصاحبه؟ أم أن هناك انفصالًا يفرضه الواقع واللامثالية البشرية؟ وهل يجب أن يتم التسامح معه وغض الطرف عن الممارسة الفعلية للقيمة مع الاستمتاع بالفن الذي يمجدها؟ إذا كانت الإجابة عن تلك الأسئلة بنعم فإن نوبل هي التجسيد العملي لحضارة قيم معينة، تجبر الجميع على التسامح مع قيمها أو التعامل مع الواقع الذي تفرضه.

اقرأ/ي أيضًا:

نوبل بوب ديلان.. إعادة تعريف الأدب

تانيا صالح في القاهرة.. مع العسكر في كل مكان