30-نوفمبر-2016

(Getty) غرافيتي في ليبيا

آخر مرّة غادرت فيها بنغازي عبر بوابة القوارشة كانت ظهرًا. على يمين البوابة دبابة كبيرة وعلى يسارها سيارة تويوتا عليها سلاح 23 أو 14 ونصف، وثمة مسلحون ملثمون واقفون يراقبون السيارات التي تمر بوجل من الاتجاهين، كانت معي العائلة وكنت أقصد اجدابيا، بعد تيكا سقطت المرآة الجانبية اليمنى للسيارة، لم أتوقف لها وواصلت طريقي، فأي شيء يسقط إلى اليمين لا أهتم له. 

الآن وأنا أعود إلى بنغازي، توقفت قبل تيكا، عبرت الطريق إلى حيث سقطت المرآة، وجدت المرآة في حضن بعض النجيلة التي نبتت بفعل مياه المطر في أخدود قرب الرصيف، لم تنكسر المرآة بل لم تخدش حتى، ما زالت صورتي تظهر فيها بشكل طبيعي، لا كبيرة، ولا صغيرة، وجهتها نحو الشمس، وأخذت أرسل بها إشارات تجهر العيون وتجعلها تدمع، بعدها أعدتها إلى مكانها، فردت إطارها الذي كان مطويًا منذ أن سقطت منه، وثبتها فيه، وقلت للصديق الراكب إلى جانبي اضغط بإصبعيك على سطح المرآة، فوق.. تحت.. يمين.. يسار، إلى أن جلبت لي الصور الخلفية كاملة وواضحة جدًا. لقد جلبت لي كل الماضي الذي فاتني، كل الأرتال التي غزت وعادت محترقة مترمدة تجر ذيلها بين إليتيها، كل البطولات التي حققها الحق في تلك الطريق الكريمة النبيلة، التي أوصلت إلى بنغازي كل الضيوف والبشر والخيرات، لقد أعادت لي حياة الشهداء، وصرخاتهم بالتقدم لطرد الشر، كل الطريق من بنغازي إلى القوارشة، إلى تيكا، قمينس، المقرون، كركورة، الرقطة، سلطان الجليدية، الزويتينة، أجدابيا.. واصلت المسير وأعطت للحياة معنى وقالت أنا حرة، أنا طريق خير لكل البشر، أنا أمان، من يضع في بوابة لقتل الناس هو عدوي، لن أتركه حيًا بالطبع، لقد جاء إلى المكان الخطأ، وعلي أن أرسله إلى المكان الصح، لقد فنوا جميعًا، لقد جلبوهم وتركوهم إلى مصيرهم، لقد اشتروا حياتهم بكلمات مخادعة ونقود وسخ دنيا زائل، وهم للأسف باعوا أنفسهم لهؤلاء الشياطين القذرين الذين يعيش معظمهم وراء البحار أو في أماكن آمنة، ستظل الطريق طريق حب، هكذا قالت لي المرآة، التي رغم أنها سقطت بسبب الرياح وسرعة سيارة 140 كم في الساعة، إلا أن إسفلت تيكا كان إسفنجًا لمرآة أرادت أن توثق التاريخ، شكرًا أيها العشب، شكرًا أيها المطر.

تكاد في هذا الزمان أن تكون كلمة "شيخ" مسبّة، لقد شوّه الكثير من الأنذال المشيخة بالدم والسفاهة واللصوصية، لقد سرقوا الكثير من حيوات الناس ومن أموالهم ومن مستقبلهم، بل ومن ماضيهم وحاضرهم أيضًا، قريبًا، عندما تقول لشخص، عدِّ يا شيخ، أو امش يا شيخ، سيغضب وربما سيضربك، فكلمة شيخ حاليًا تعني فتاوي الضلال، خاصة التي تبثها فضائيات البراز السياسي في كل دول العالم، لقد كرهت كل الشيوخ إلا شيخًا واحدًا، الذي اسمه سنتياغو، بطل "همنغواي" في كتابه "الشيخ والبحر"، سيسأل سائل ما، كيف مت أيها الولد؟ مرض، حادث سير، لا، لا، أيها السائل، أنا صحتي بمب، وما عنديش سيارة حتى اندير بيها حادث، مت بسبب شيخ دفلي طاجين، قال لي ستدخل الجنة، ستجد حور العين، وكل شيء تشتهيه، قال لي المعركة في بنغازي، ومشيت لبنغازي، وقبل ما نوصل مشيت فيها، صدقني إني أحب الطواجين، طواجين الحياة وليس طواجين الموت، لماذا لم يرسلني هذا الشيخ إلى لندن أدرس علوم الدين، أو الطب، أو حتى تصليح البشكليطات؟ لماذا لم يرسلني إلى البرازيل أدرس شجرة البن وأطور نوعًا جديدًا من القهوة يمشي مع مزاج مقهى البرلمان في طرابلس، أو مقهى تيكا في بنغازي؟ لماذا لم يرسلني إلى قطر أو الإمارات انبزنس على حالي؟ لماذا لا يخرج في التلفاز إلا ليقول لي موت، امش حارب، الدراسة وإلا الخدمة برّه للصحاح بس، أنت ابن وطن والوطن في خطر فلنؤجل طلب العلم ولو في الصين ونموت أولًا. 

ولكن أنا لا أريد أن أموت، أريد أن أدرس كي أكون شيخًا، أصدر فتاوى للدفع بالحياة إلى الأمام، فتاوى خاصة بالزراعة والصناعة والبناء والسلام، فتاوى ما فيهش طواجين أو تباسي أو جرادل، فتاوى فيها حب وتسامح وأخوة وتكاتف، أنا بصراحة لم أذهب إلى الحرب، والذي مات هناك ليس أنا، لقد شبّه له، أي للشيخ ومريده الذي يراقبني ويدفع في نحو الغرق، حقيقة قالوا لي شرّق فلم أشرّق، وغرّبت نين طلعت من البلاد، قبل بنمشي هجرة غير شرعية، لكن ما فيش ثقة في عصابات الجرافات والقوارب المطاطية، دفيتها بر شور تونس، علم أمازيغي فوق الطابلون وعدي فوت طول، وها أنا الآن في جامع الزيتونة، جالس في صلاة الجمعة، لا أسمع خطبة الشيخ، ولكن أسمع قلوب المصلين وهي تدعو إلى الله، بعد الصلاة مشيت لشارع بورقيبة، خشيت لشارع القاهرة، مطعم صفاقسي طلبت منه كسكسي، لم يعجبني، الكسكسو الليبي دائمًا هو الأفضل، سواء كان بالبصلة او بالخضروات، قلت له الكسكسو لم يعجبني، هاتلي سمك، وقال لي السمك ما تماش، يعني نفد أكمل، وختمت على نصف راس حولي، لا أدري هل هو حولي وطني أم مازقري، المهم الآن تمام، الحمد لله، شبعت، نمشي نفتح النت أو التلفزيون، انشوف أخبار أولمبياد البرازيل. 

اليوم في ليبيا جمعة، أكيد فيه مشاكل وحرب وموت ومظاهرات وتصريحات ووجيج، أنا الجمعة دائمًا للراحة، سأستريح، لن أسمع أي خبر، لن أتابع أخبار الوطن، في بطني نصف رأس، وأنا الآن خارج بطن الوطن، في طريقي إلى الفندق جلست في مقهى باريس، شربت قهوة وأخذت أتفرج على الناس التي تمشي أمامي. خليط من حور العين والغوريلات والبوليس والشرطة السرية والسياح، وبالطبع الليبيين، مع كل منظر جميل يمر آخذ رشفة قهوة، القهوة نفدت والجمال ما زال مستمرًا، أشعر بنعاس الآن، لازم نمشي ندمدر اشوية، وأنا نائم بدأت أحلم، الخروف الذي أكلت نصف رأسه في المقهى جاء نصفه المفقود، لقد أكلته قبلي بساعة بنت ليبية، وقفت عند رأسي، وقالت، عندما كنت أنت في صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، كنت أنا في المطعم، وأكلت نصف رأس الخروف، وطلبت من النادل أن لا يبيع نصف الخروف الآخر إلا لرجل، التقازة نجية، في رباية الذَّايح قالتْ لي ذلك، من يأكلُ نصفَ رأس خروف تكونين أنتِ قد أكلتي نصفه سيكون رجلًا طيبًا وستلتقنيه، قلت لها مرحبًا، يا نصفي الضائع، جميل أن يجمعنا رأس خروف، قالتْ لي رأسُ نعجة هذه وليست خروفًا، عمومًا قلت لها مرحبتين، وسألتها ماذا تعمل في تونس.. دراسة والا علاج والا سياحة وإلا عمل، قال لي يا ريت، أنا نازحة، وبالمناسبة أنت شنوا ادير في تونس، قلت لها كيفك، بس أنا نازح بسبب الشيوخ والفتاوي، الكل يريدني أن أحارب، أن أفجر نفسي، أن أدخل ميليشيا، حاسديني في شبابي، لا يريدوني أن نلتقي بك، بنصف رأسي، بمستقبلي، بحبيبتي... تعالي هنا اشوية، اقربي، كنك امصبية، الحوش حوشك، اللعنة على المفتي، يحيا الحب، ووووه.. وووه.. وووه.. وباب الغرفة يفتح بقوة، وايش بيه الليبي أهبل، اتصل بالإسعاف أو الدرك الوطني، ما زال يفترم، وداهش صدره يرقا وينزل، حاضر حاضر.. هو مجنون أكيد، اشبح اشب يغني، يخرب بيت الحوثيين، وجيش عبد الله صالح كله، خلا يغني، اللي صاير في ليبيا ايخليك تجري في الشارع عريان.

تركت الفندق، تركت تونس، عدت في الطيارة إلى ليبيا، أنا الآن في درنة، على شاطئ البحر، وجهي للماء، ظهري للسيارات المارة، لا أدري أنا تبع من الآن، صفيت حسابي مع الشيوخ الدينيين، وما زال شيوخ آخرون عسكر وقبيلة ومليشيات ودراه كبد أحزاب دموية، لا أحد يريد أن يترك الشاب الليبي في حاله، الكل يريد أن يجنده لصالحه، أريد أن أنظر إلى البحر وظهري للطريق والسيارات، هل النظر إلى البحر ممنوع، هل تملكون البحر، حسنًا أنا لا أنظر إلى الشط إلى سيادتكم ومياهكم الإقليمية، أنا أنظر إلى البعيد، البعيد الذي ليس ملككم، المياه الدولية أقصد، يا سيدي بما أنك لديك قدرة أن ترى أبعد، تعال اخدم الوطن واستطلع لنا، قلت له الوطن من، تقصد أخدمك أنت، الذي لا تخدم الوطن، خطاني يا رجل أو انقولك يا شيخ، شنو فيه شنو فيه كنك كنك، لا شيء جيت فوقتك، ركبت معه مخرجنا صوب كرسه رأس الهلال ثم سوسة ثم شحات.

مناظر جميلة عرفت من خلالها أن لي وطنًا، أدافع عنه بالحب، قلت له، الآن وصلنا، اتركني في شحات هنا، قال لي سيقبضون عليك، قلت له الوطن لن يقبض علي، وبقية القابضين لا أكترث لهم، لن أحمل السلاح لن يحركني أمر أو فتوى، في شحات شعرت بالحزن، البحر بعيد، والجبل علاقتي به فاترة قليلًا، ضعيف جدًا في غناوي العلم والمجاريد والشتاوات، لكن تذكرت، أنا أعرف العزف على الناي وكذلك الزمارة، قلت للجبل ينفع أزمر، فقال لي زمر، زمر، زمر يا حبيبي، سترقص لمزمارك أشجاري، وبدأت أزمر، ولم أخشَ أي شيخ يقول لي التزمير حرام، وتعددت ألحان الزمارة، فرحة مرحة حزينة، وتعبت وشعرت بالحزن، المزمار جلب لي الحزن واستدعى لي ذكريات قديمة، لقد تعلمت العزف على المزمار في كهف جبلي بدرنة، في وادٍ بين حي المغار وبومنصور، اسمه الجبخانة، تعلمت كيف أحرك أصابعي على القصبة، وكيسف أنفخ وأقتسم أنفاس حياتي بين مزماري ورئتي فلا المزمار ينطفئ ولا رئتاي يختنقان، لقد كان الهواء الذي أقتسمه بين رئتي وموسيقاي هواء نقيًا باردًا جبليًا منعشًا معطرًا، تحسه وقد وصل إليك من أزمان سحيقة، منذ أن بدأ ماء وادي الشواعر في نحت الجبل وصنع بيت الموسيقى هذا، ولكن الأتراك لعنهم الله جعلوا هذا الكهف مخزن للبارود، لقد حشوه بالموت، ويا ليت حاربوا عندما حانت لحظة الحرب عندما دخل الاستعمار الإيطالي إلى ليبيا عام 1911، لقد فروا كالعادة وتركوا أجدادي العزل أمام ترسانة عسكرية لا قبل لهم بها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المُبتدأ الباحث عن الخبر

راعني ما رأيت