10-فبراير-2023
أنقاض في تركيا

أنقاض في تركيا

هل الصورة محايدة؟ أهي مجرد أشكال وألوان تمثل انعكاس جسم، أو ظاهرة، أو كارثة حلت بأقوام على عدسة كاميرا أراد صاحبها أن يكون شريكًا في نقلها مجمدة للآخر الذي لم يستن له مواكبة اللحظة؟ أم أن الصورة تُعبّر في حالات لا يستهان بها عن أيديولوجية وأخلاق صاحبها، وإلا ما الذي يجعل صورًا تلتصق بقرينة العين دون أخرى، وتحصد تعاطفًا وإعجابًا دون سواها؟

لا يخلو التاريخ الحديث من مصورين مغمورين اشتهروا بعد أن وثّقوا صورًا لمآسٍ بشرية، أرادوا أن يكون العالم شاهدًا عليها، فالصورة هي الشّاهد الوحيد على انهيار الإنسانية والحضارة معًا، وهي أيضا المسؤولة عما يمكن أن يتولّد من مشاعر وآراء داخل عقل المتلقي، وهي بذلك شريك في صناعة رأي وتوجيه إلى حيث يراد إليه.

لا يخلو التاريخ الحديث من مصورين مغمورين اشتهروا بعد أن وثّقوا صورًا لمآسٍ بشرية، أرادوا أن يكون العالم شاهدًا عليها، فالصورة هي الشّاهد الوحيد على انهيار الإنسانية والحضارة معًا

وإن كان التقاط الصور على بشاعتها في إطار مهني مبرر ومفهوم، يلجأ فيه المصور مجبرًا على تغطية مشاهد الترويع، من دم وقتل بدم بارد أيضًا -الحرب السورية تعبر عن الفكرة بوضوح- فليس مفهومًا أن يهرع العامة لتوثيق صور تدمي القلب لشدة قسوتها، ذلك أن التّعود على رؤية تلك اللحظات الأكثر مأسوية يفقدنا مع الزمن القدرة على التعاطف، يقفدنا القدرة على رؤية الأهوال واستشعارها، بل يجعل الموت قتلًا بفعل الإنسان أو الطبيعة، أو أيًا كان شكله وماهيته، ويجعله رديفًا لأي حادث عابر، كسقوط المطر، وكهبوب الريح، أو في أحسن الأحوال كخبر "العرب صنعوا أكبر فطيرة سبانخ في العالم"، وتغدو رؤيتنا للفيديو يتضمن مشهدًا قاسيًا مشابهة لرؤية فيديو آخر طالما اقترن بعبارة راسخة في الذهن ليس فينا تقريبًا من لم يصادفها: "شاهد فيديو سقوط فستان الفنانة س قبل الحذف"، أو أي حدث آخر يحصد متابعات وينتهي به الأمر إلى النسيان، حتى يصادفنا حدث آخر أكثر أو أقل إثارة، فهل يصور الناس عادة صورًا اعتباطية بحجة امتلاكهم لكاميرا هاتف؟

تطاردنا الصور، ونطاردها كذلك، كمن يبحث عن شيء لا يريد أن يتقاسمه الآخرون وحدهم بعيدًا عنه، تلاحقنا في أماكن عملنا في بيوتنا في غرف نومنا في الشوارع، في المقاهي والمطاعم، نتابعها بتأسف قليل أو كثير لا يهم طالما أن زمن مشاعرنا سيموت لحظة اختفاء الصورة مع أن الصورة نفسها لا تموت فهي تؤسسس لخلودها ما إن تنطلق من كاميرا صاحبها؟ فما الذي يحدث لمشاعرنا وذاكرتنا ما إن تختفي الصور؟ على الأغلب نواصل متابعة مباريات كرة القدم، ونتناقش حول أخبار السياسة وغلاء المعيشة وزواج مشهور وطلاق آخر، وكأننا نمارس أكثر ظواهر الطبيعة دهشة. قدرتنا على التأقلم السريع مع الأوضاع، ما يحدث مع الإنسان شبيه بنظام تشغيل الحواسيب والهواتف الذكية، انقر على الزر تختفي الصورة وتختفي معها المشاعر التي صاحبتها؟ أليست هذه ظاهرة تستحق أن نقف عندها؟

توالت الصور بعد الزلزال الذي دمر مناطق في تركيا وسوريا، وذكر العالم أنه أرحم بكثير من قذائف الأسد، ولسنا نفاضل بين الألمين على كل حال، وكأن قدر سوريا حصر في ثنائية الموت والتهجير. توالت أخبار الموت والاختفاء ولم يتوقف سيل الصور والفيديوهات فعجت مواقع التواصل بصور مروعة، تأسف رواد الشبكات الاجتماعية، كتبوا وذرفوا دموعًا رأيناها تغرق جدران الفضاءات الافتراضية مشاعرًا، ثم اهتدى السواد الأعظم، وتيمنًا بالأساطير، أن هذه الظاهرة الكونية هي غضب الله أنزله على المجرمين من عباده بعد أن انتشرت بينهم المعاصي والرذائل! غضب إلهي حل بالسوريين؟ يا لها من وصفة سحرية تنفي عنا خذلاننا لهم، وتنسينا أنهم بلا أرض ولا مأوى أساسًا!

التناقض رهيب تفضحه الصورة، لا غيرها، الصورة الصديقة والصورة العدوة، الصورة المؤدلجة وتلك التي تصرخ بملأ الألوان أنا بريئة، أطفال في المخيمات، بدون أكل ولا لباس، مشردون بلا مأوى ينتظرون مؤونات هيئات الإغاثة، بقايا حرب السياسة والكيماوي وحشر الأنوف، أطفال تحت الردم تتوسل رجلًا أن ينقذها مهما كان الثمن. الصورة تكشف عن زيف أخلاقنا وموتها ونفاقها في آن. كيف لآدمي أن يصمد أمام بشاعة ما ينقل عبر كاميراه ولا ينهار؟

صور من كاميرات هواة ترصد في اللحظة الأكثر مرارة وقسوة انهيارالمباني بسكانها؟ ألا يمارس هؤلاء أيضًا قسوة كتلك التي تمارسها الطبيعة؟ قسوة تساوي الموت مع الرغبة الملحة في تخليد الحدث في صورة تسافر عبر العالم في لمح البصر.

نرتل الأخلاق على مسامع بعضنا البعض مثل ترنيمة ولكننا نغفل عن أهم شيء، نغفل عن الزمن الذي وجب أن نرى فيها تلك الأخلاق فعلًا لا تنظيرًا

وإن افترضنا أن المصور لا يحركه توجه سياسي أو ثقافي أو ديني، وإن بدا متخفيًا في اللاوعي لا يتعرف عليه صاحبه ألا وهو يرى الصورة التي أخذها لطفل ضعيف يستنجد بمن يعتقده أقوى تتناقل بين الناس، وكل يختار الصورة التي يتعاطف معها أكثر، ذلك أنّ الناس في العادة تنتقي ما يتماشى مع توجهها، كأن نقف متفاخرين ومتألمين، أمام فيديو لطفل يكرر الشهادة وهو عالق بين الركام وطفلة تستنجد إنقاذ والدتها، وأخرى تحمي أخاها الصغير، ولا نرى بكل ذلك التعاطف طفلة ينقذها صحفي وهي مذعورة أمام تكدس البنايات ألا نتساءل عن ما يخلفه كل هذا الترويع في نفوس هذه الضحايا؟ ثم أليس ما يحدث مع الناس أثناء لحظات تصوير المأساة بكل تفاصيلها دليل على موت الإنسان ألا يقوض الإنسان سلامته بالصورة؟ ألم يتحول الموت في زمننا هذا إلى مساوٍ للذهاب في نزهة نصور كل لحظة عشناها؟ ألا يسقط هذا التصرف هيبة الموت ورهبة الألم؟

كيف لا نفكر فيما قد تخلفه هذه الصور في نفوس من التقطت صورهم، وهم في أكثر المشاهد وجعًا وإذلالًا، لأنني لا أتصور أن يحب أي أنسان كان توثيق لحظة ضعفه بكل تلك البشاعة؟

نرتل الأخلاق على مسامع بعضنا البعض مثل ترنيمة ولكننا نغفل عن أهم شيء، نغفل عن الزمن الذي وجب أن نرى فيها تلك الأخلاق فعلًا لا تنظيرًا.