07-فبراير-2023
الزلزال في شمال سوريا

دمار في محافظة إدلب

يحدث كثيرًا أن أفكّر في ظاهرة الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات، فيأخذني تفكيري في الظاهرة دون التعمّق فيها إلى الإقرار بأنّها قد تكون واحدة من أكثر الظواهر عدالة في تاريخ البشرية، أفكّر دائمًا بأنّها ظاهرة تحدث فُتصيب البشر دون الالتفات إلى أجناسهم وألوانهم وأعراقهم وهوياتهم، هي تحدث في منطقة ما، ويُصاب بها  البشر في تلك المنطقة، يُصابون بها بصفتهم الإنسانية العامة دون تفريق أو تخصيص، يُصاب بها الصالح والطالح والغني والفقير والسيئ والجيد والمتدين والملحِد، أفكّر بأِنّها ظاهرة تأتي في عدالتها لتنفي عن الأرض تهم سوء التوزيع وتؤكّد على مبدأ المساواة الإنسانية في الإصابة بها عمومًا.

كانت مشاهد الدمار في الشمال السوري والمناطق السورية المحرّرة الخاضعة لسيطرة المعارضة التي يقطنها نحو 4 ملايين إنسان هي المشاهد الأكثر ألمًا وفداحة

دفعتني المشاهد المؤلمة القادمة من سوريا تحديدًا جراء الزلزال الأخير الذي حدث فيها -وكان مركزه تركيا- بقوة 7.8 ريختر إلى إعادة التأمّل في الكوارث الطبيعية وفرضية عدالتها المضحكة التي انطبعت في ذهني عنها.

لم يُفرّق الزلزال بين المناطق السورية على أسس سياسية، أصاب في دماره مناطق النظام ومناطق المعارضة، أصاب سوريا كلّها، وكانت مشاهد الدمار القادمة من كافة أنحاء سوريا تُدمي القلب وتوجعه.

ورغمَ ذلك كانت مشاهد الدمار في الشمال السوري والمناطق السورية المحرّرة الخاضعة لسيطرة المعارضة التي يقطنها نحو 4 ملايين إنسان (مدن وبلدات إدلب وعفرين وجنديرس سرمدا والدانا وعزمارين وحارم والبسينا والباب وسلقين ومخيمات أطمه) هي المشاهد الأكثر ألمًا وفداحة، فالبنية التحتية السيئة أصلًا في تلك المناطق، صعّبت من قدرة فرق الدفاع المدني والفرق الطبية على إنقاذ مَن يمكن إنقاذهم من تحت الأنقاض، وذلك بسبب الضعف الشديد في الإمكانات والنقص في المعدّات الهندسية والطبية والمحروقات.

واحد من المشاهد المؤلمة التي جاءت من تلك المناطق كان مشهد لرجل متطوّع في فرق الإنقاذ، يوجّه رسالة أمام الكاميرا إلى العالم وهو يقف على أنقاض مبنىً مهدّم مليء بالأشخاص الأحياء المحاصرين تحت الأنقاض، كان الرجل يشكو من نقص في الآليات والمعدات التي تمكنه وغيره من العاملين في فرق الإنقاذ من انتشال الناجين العالقين تحت الركام.

مشهد آخر مؤلم كان لرجل يبكي طفله الذي قضى نحبه جراء الزلزال، يحمله بين ذراعيه ويبكيه ويُخاطبه بحرقة قائلًا: "وجّعت قلبي يا أبوي، وجّعت قلبي يا غالي"، يفقد الأب ابنه هذه المرة لا ببرميل متفجّر أو سلاح كيماوي، بل بزلزال، بكارثة طبيعية تَضرب سوريا، وتصيب الإنسان السوري، فتجعلنا نتساءل عن حدود الطبيعي في المأساة السورية التي فاقت كلّ حدّ، وهل يجوز لنا مثلًا أن نخرج الزلزال -الذي جاء ليضيف فصلًا جديدًا من فصول الوجع في هذه المأساة- عن صفته ككارثة طبيعية، لنجعله متواطئ ومساهم فيها وفي تعميقها واستمرارها.

أذكر أنني في شتاء عام 2015، ومع اقتراب عاصفة ثلجية كان من المتوقع أن تضرب سوريا وفلسطين والأردن، كتبتُ في نصّ رومانسي أمنية أو ربّما رجاء، قلتُ في نصي: "أتوقع بأنّ العاصفة القادمة في سيرها نحوَ شاطئ المتوسط ستُقابل ملاكَ رحمةٍ متنكّر في زيّ شرطيّ مرور، سيسألها عن وجهتها وبعدَ أن تُخبره سيُعاتبها عتابًا أبويًا ويقول: عجيبٌ أمركِ حقًا، أوما تعلمين أنّ شاطئ المتوسط منطقةُ مخاضٍ كبرى؟ ألم تسمعي عن آلاف اللاجئين -من مختلف الجنسيات- الذين يفترشون العراء بلا مأوى تقيهم شرّ غضبتك الباردة؟ هيا فلتحولي مساركِ".

اذكر أنني كتبتُ هذا النصّ وكانت أنظاري تتجه نحو الوجع السوري وكأنّه بوصلتي، وكأنّني كنتُ أرى أنّ دور ملائكة الرحمة لا يُمكنه أن يظهر إلا في مواضع منع امتداد هذا الوجع واستفحاله، واليوم أرقبُ مشاهد الدمار الذي يتجدّد معه هذا الوجع ويتفاقم، أرقبه فأتساءل: لماذا أحجم ملاك الرحمة هذه المرة عن الدخول في جوف الأرض الغاضب، ليهدئها، أو لينهرها مثلًا، وليصرخ فيها بأعلى صوته: فلتهدئي من غضبكِ، ففي الإنسان السوري ما يكفيه من الوجع والموت!