10-يونيو-2022

الوضع الراهن يتحدد على الأرض وضمن المعطيات الجديدة (Getty)

يعد "الوضع الراهن" من أكثر الاصطلاحات الإسرائيلية استخدامًا مع كل توتر أو تصعيد مرتبط بالمسجد الأقصى. ويستخدم هذا التعبير باستمرار من قبل وزراء وسياسيين في إسرائيل عند الحديث عن ازدياد في عدد الاقتحامات الاستيطانية للأقصى، أو عند إقامة مستوطنين صلوات داخل حرم المسجد. حيث يؤكد هؤلاء المسؤولون دائمًا على قيامهم بـ"الحفاظ على الوضع الراهن" وتقديمهم تعهدات بهذا الشأن، سواء لتجنب توترات إضافية محتملة، أو في سياق دبلوماسي موجه للأردن على نحو خاص، التي تمتلك الوصاية على المسجد، وتؤكد بدورها بشكل مستمر على ضرورة الحفاظ على هذا الوضع.

إعلان الوضع الراهن كان اتفاقًا غير مكتوب ولا توجد له أي قيمة قانونية وجاء كنتيجة لتفاهم ضمني بين عمان وتل أبيب

تبلور مصطلح الوضع الراهن عقب احتلال إسرائيل لكامل مدينة القدس في عام 1967. بناءً على الوضع الجديد، وعقب استكمال إسرائيل احتلال ما تبقى من فلسطين، صاغ وزير الأمن الإسرائيلي في حينه موشيه دايان إعلان "الوضع الراهن"، الذي أعلن فيه أن المسجد الأقصى هو وقف إسلامي للأردن حق الوصاية عليه، وستحتفظ بالسيطرة عليه من ناحية الإبقاء على موظفي الأوقاف التابعين لها. كما سيسمح لليهود بزيارة المسجد دون الصلاة فيه، فيما تتولى المهام الأمنية الشرطة الإسرائيلية دون أن تتواجد داخل المسجد.

ما عزز إعلان الوضع الراهن، هو شبه الإجماع الديني اليهودي على حرمة زيارة المسجد الأقصى. فقد أصدر الحاخامات الغربيون والشرقيون أحكامًا تمنع زيارة المسجد، من خلال تبرير ديني يقوم على حرمة زيارة المسجد حتى وصول المسيح المخلص. وكانت هذه الأحكام تحظى بموافقة كافة التيارات الدينية بما فيها القومية، وتقاطعت فيها أسباب دينية مع أخرى سياسية غير معنية بتصعيد مبكر في الأرض المحتلة والحفاظ على الهدوء والسيطرة فيها وترسيخ الاحتلال. ووفقًا لتقرير صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست الإسرائيلي في عام 2014، فإن ديان كان يعتقد أن ترك الإدارة للسلطات الأردنية سيمنع انتفاضة في الضفة الغربية، وسيقلل التوتر مع البلدان الإسلامية ويسهل من تثبيت السيطرة الإسرائيلية.

في سنوات السبعينات، بدأت محاولات لخلخلة الإجماع الديني اليهودي في إسرائيل من أجل دفع المستوطنين اليهود إلى اقتحام المسجد الأقصى والصلاة فيه، مع حراك عدد من الحاخامات من أجل تغيير السياسة الإسرائيلية تجاه المسجد والسماح لليهود بالدخول إليه وأداء الطقوس الدينية. لكن هذه المحاولات لم تفلح كثيرًا، ولسنوات طويلة كان يسمح لليهود بالدخول بأعداد قليلة جدًا خلال الاقتحام الواحد، مما يمنع إمكانية إقامة صلاة، كما يمكّن من ضبط المقتحمين بسهولة، فيما كانت أكبر أرقام الاقتحامات تصل 100 مستوطن خلال العام.

جاء التحول الكبير في أيلول/ سبتمبر 2000، مع اقتحام رئيس المعارضة الإسرائيلية في حينه أريئيل شارون للمسجد الأقصى، مما ساهم باندلاع الانتفاضة الثانية. عقب ذلك، توقفت اقتحامات المسجد الأقصى من قبل المستوطنين لمدة 3 سنوات. مع ذلك، بدأت تتسع فتاوى الحاخامات اليهود التي تسمح بزيارة المسجد الأقصى، بعد تخوفها من تثبيت منع اقتحامات المسجد. في عام 2006 سمح بأن تكون هذه الاقتحامات على شكل مجموعات، لكن دون أن تكون في أوقات الصلاة الإسلامية، ودون أداء طقوس دينية يهودية.

وإعلان الوضع الراهن كان اتفاقًا غير مكتوب ولا توجد له أي قيمة قانونية وجاء كنتيجة لتفاهم ضمني بين عمان وتل أبيب، ثم تعزز مع المصادقة الإسرائيلية على الوصاية الأردنية على المسجد، عقب اتفاقية التطبيع بين الأردن وإسرائيل عام 1994. حيث اشتمل الاتفاق مع الأوقاف الأردنية على ترتيبات متعلقة بالترميمات والحفريات والتعليم في المسجد، بالإضافة إلى السماح بزيارة اليهود للأقصى، في الوقت الذي يسمح فيه بزيارة الأجانب للمسجد، في ساعات محددة يتم الاتفاق عليها مسبقًا، مع وجود مرافقة من الشرطة الإسرائيلية والأوقاف الأردنية خلال الاقتحام من أجل التأكد من منع اليهود من إقامة طقوس دينية داخل حرم المسجد. لكن في السنوات الأخيرة، تتجاوز الشرطة الإسرائيلية مسألة مرافقة الأوقاف للاقتحامات أو مراقبتها شأنها شأن بنود أخرى في هذا الاتفاق. وعلى نحو خاص، جرى ذلك في السنوات التي تولى فيها جلعاد أردان سفير إسرائيل في الأمم المتحدة حاليًا، ووزير الأمن الداخلي في حينه، الذي ساهم في إحداث تغييرات كبيرة على الوضع كان أبرزها زيادة عدد المقتحمين اليهود وتحويل فترات الاقتحام إلى فترتين في الصباح والظهر.

وقد كان أردان قد وعد "بتعزيز السيادة الإسرائيلية في المسجد الأقصى" واتخذ خطوات فعلية من أجل تعزيز التقسيم المكاني والزماني للمسجد، وحاول الدفع باتجاه السماح بإقامة طقوس عبادة يهودية فيه. لكن التغير الأهم هو أن الاقتحامات اليومية أصبحت تزيد في المناسبات اليهودية عن 1000 مقتحم يوميًا. أما ملامح هذه التغيرات فقد ظهرت في قرار المحكمة الإسرائيلية التي سمحت لليهود بأداء صلوات في ساحات الأقصى، بعد قضية رفعها مجموعة من المستوطنين الذي اعتقلوا من قبل الشرطة بعد قيامهم بالصلاة داخل المسجد. أوضحت المحكمة أن القرار ينطبق على هذه الحالة فقط، لكن كان هناك نية للتعامل معه كقاعدة، قبل أن تقوم الشرطة الإسرائيلية بالاستئناف وتبطل القرار رسميًا.

لا يعكس هذا القرار الواقع على الأرض بطبيعة الحال، ففي ما يعرف إسرائيليًا بـ"يوم توحيد القدس"، اقتحم حوالي 2600 مستوطن المسجد. هذا الرقم القياسي للاقتحامات يظهر صعود تيارات الصهيونية الدينية التي حصلت على دفعتها الأولى عام 1967، لكنها تشهد الآن ذروتها، بالإضافة إلى سيولة إعلان الوضع الراهن، الذي يتشكل باستمرار بناءً على المعطيات على الأرض، أكثر من ارتباطه بإعلان دايان الذي تمت صياغته قبل 55 عامًا.

الوضع الراهن يتشكل باستمرار بناءً على المعطيات على الأرض، أكثر من ارتباطه بإعلان دايان الذي تمت صياغته قبل 55 عامًا

بحسب تقرير لصحيفة "هآرتس" التي رافقت الاقتحامات الأخيرة، فإن التيارات الهامشية في الصهيونية الدينية، التي كانت تدعو إلى اقتحام المسجد الأقصى، تحولت اليوم إلى تيارات رئيسية في إسرئيل. فمن بين الأسماء الأبرز حاليًا في هذه التيارات، إيتمار بن غفير، الذي كان من بين مقتحمي الأقصى وهتف له المستوطنون "رئيس الحكومة القادم". كما كانت زوجته معه أيضًا، وارتدت قميصًا كتب عليه "مديرة المسجد الأقصى". فيما كان أتباعه ينظمون دور الاقتحامات، ويوزعون الماء على المنتظرين، كما أدخلوا أصدقاءهم وعائلاتهم من بوابة جانبية.