11-أبريل-2019

بابل عام 1932 (Getty)

عند التفكير في بابل تخطر في بالي أبراجها العظيمة وحدائقها المعلقة وأسوارها الضخمة. زياراتي لهذه المدينة التاريخية عادة ما تكون في العطل الرسمية، ودائمًا بعد منتصف النهار، مع الأصدقاء. وحين أقف أمام بوابة عشتار المفترضة، أتذكر مشاهداتي البوابة الأصلية في متحف بيرغامون في برلين، عبر اليوتيوب، إذ تبدو البوابة ضخمة مقارنةً بالبوابة الافتراضية.

إن الطاقة التي تصلنا من مدينة بابل ربما هي بسبب التراكم الزمني الممتد منذ آلاف السنين

أفكر في كيفية بناء هذه المدن وأقارن بينها وبين مدن الإسمنت والكونكريت التي نعيش فيها اليوم، والتي لا تحمينا من حر الصيف اللاهب. أشعر بطاقة غريبة تبثها المدن التاريخية في زائريها، وتترك فيهم شعورًا بالارتياح والتأمل والحيرة.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس وفلسفة اللغة في "مكتبة بابل"

إن الطاقة التي تصلنا من مدينة بابل ربما هي بسبب التراكم الزمني الممتد منذ آلاف السنين، أو ربما لأن الأرض بقيت كما هي، وبصفتي دارسًا للفن وتاريخه وأبجديات التعليم الأكاديمي، أضع أيضًا مقارنة بين المنحوتات البابلية في العصور الأخيرة وبين أعمال الفنانين مايكل أنجلو ورودان وجياكوميتي. فإن كل ما يحيط بالفن ومعرفته التراتبية التي تعلمناها تتوقف أمام المشي لدقائق في شارع الموكب البابلي، والنظر إلى الكائنات المتناسقة والمتشابهة في الحجم والشكل والمتكررة على طول الشارع. كائنات تمثل فكرة المطلق في العراق القديم، أو كائن المشخشو (رمز الإله مردوخ) الموجود في كل مكان والمتمثل في الهواء وتحت الماء وفي أقصى الصحاري. وعندما ينتهي شارع الموكب في الاتجاه الشمالي نرى الجدران تتحول إلى أبنية معاصرة وضعها النظام السابق نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، إذ وضع الطابوق (الجمهوري) فوق البناء الأصلي، الأمر الذي يصيبني باليأس والتذمر لهذا العبث بمكان معروف لكل سكان الأرض قاطبة.

إن فكرة الدكتاتورية هي السيطرة. ولم تسلم منها المعالم الأماكن الأثرية، سواء بتخريبها أو تشويهها. وينتهي بك المطاف إلى النظر إلى أسد بابل الذي يقع في الجهة الشمالية للمدينة والمصنوع من البازلت الأسود. ترى بعض القطع مرمية على جانبيه من الحجر نفسه، ويقدم لك المرشد السياحي للمدينة معلومات ليست من التاريخ المكتوب، بل من الرؤية الثقافية الشعبية التي يمتلكها سكان القرى المجاورة للموقع والموروثة من الأسلاف والتي ترى في بابل مدينة ملعونة، يطلقون عليها اسم "المجيليبة"، أي الأرض التي انقلبت عقابًا لأهاليها على أفعالهم السيئة.

خلف الأسد بعشرات الأمتار، ترى جبلًا شاخصًا صنع لوضع قصر صدام حسين على قمته. ولأن بابل تقع ضمن منطقة السهل الرسوبي، حيث ينعدم وجود الهضبات والجبال، فإن وجود هذا البناء المرتفع  تشويه متعمد أيضًا لتاريخية هذه المدينة. ويبدو وجوده غريبًا بين  الخرائب والجدران المتهدمة.

إن فكرة الدكتاتورية هي السيطرة. ولم تسلم منها المعالم الأماكن الأثرية، سواء بتخريبها أو تشويهها

أتذكر دائمًا رغبتي في السنوات الأولى من دراسة الفن في أن أرسم بعض المشاهد للمدينة، ويخامرني شعور أن المكان لا يمكن أن تسعه لوحة القماش المحدودة لنقل هذا الاحساس الهائل بالأثر، لذلك لا يسعني سوى أن أقف أمام الأسد ومعي الكاميرا، ليكون الجسد وجميع الحواس هي المؤشر الحقيقي للتواصل.

اقرأ/ي أيضًا: ندب الحسين ومرثية تموز التي لا تموت

على ضوء ذلك، عملنا ورشة للمكان في عام 2017 لفن الأداء في باحة أسد بابل، وهي طريقة للتفكير بالمدينة من خلال عدة محاور تتعلق بعلاقة المدينة المباشرة بالدين والثقافة الشعبية، وهذه المحاور من أهم المؤثرات على المكان وديمومته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعزيزة.. تمائم أرض السواد

تأملات في القيامة والمعنى