22-أغسطس-2016

من احتفالات عيد الاستقلال في الهند سنة 2015(ناريندار نانو/أ.ف.ب)

على بعد كيلومترات من التفجير الذي استهدف وسط نيودلهي، وتحديدًا محطة مترو "راجيف شوك"، الشبيهة بمحطة "السادات" بالقاهرة، تهديدًا لاحتفالات عيد الاستقلال، ولا تزال أصابع الاتهام والغضب والانتقام تشير إلى باكستان، العدو الوحيد هنا، تقع "بوابة الهند"، التي تضم مباني رئاسة الوزراء والوزارات ودواوين الحكومة والبرلمان ومجموعة من المعابد الصغيرة على ناصية كل شارع.

كراهية الإنجليز، الذين خرجوا من دلهي قبل 70 عامًا، موجودة وقوية إلى اليوم إضافة إلى الباكستانيين الذين لا تزال الحرب قائمة معهم

أما ذكرى الاستقلال، التي وافقت الخامس عشر من آب/أغسطس الجاري، فتحيى احتفالاتها الرسمية بالقرب من "بوابة الهند"، وتحديدًا في "ريد فورت"، وهي قلعة قديمة شاهدة على أغلب المعارك والحروب الهندية منذ 1857، ولون جدرانها أحمر "بلون دماء العدو التي سالت على بوابة القلعة"، كما يقولون، والتي أسسها شاه جهان، صاحب قصر تاج محل، الأثر الأشهر، وله قصة رومانسية فقد بناه هدية لزوجته ممتاز محل، التي كانت في ظهره خلال أغلب حروبه.. فالحكام أيضًا قادرون على الحب.

زرت "ريد فورت"، القلعة الحمراء، ليلة عيد الاستقلال فكانت الاستعدادات طاغية وحالة الطوارئ معلنة وامتلأت الساحة بكراسي تصل إلى عشرين ألفًا في مواجهة منصة سيلقي عليها الرئيس الهندي ومن بقي من رموز الاستقلال كلمة، وارتفع العلم الهندي الذي ينكّس في جميع أيام السنة ما عدا الأعياد الوطنية، والأمن مسيطر على كل شيء دون إزعاج أو مضايقات.

اعترضني ضابط حاول أن يكون بشوشًا، واصطادني من وسط الزحام، وسألني: "من أين؟.."، قلت له: "مصري"، فضحك وردّ بإنجليزية ركيكة: "المهم ألا تكون باكستانيًا أو إنجليزيًا!"، كان مفهومًا العداء للباكستانيين، فلا تزال الحرب قائمة بين الطرفين حتى لو كانت باردة. لكن كراهية الإنجليز، الذين خرجوا من "دلهي" وضواحيها قبل سبعين عامًا، موجودة وقوية إلى اليوم. فالشعوب لا تزال محبوسة داخل هزائمها القديمة، وذكريات إذلالها التي ستترك علاماتها للأبد، ليس الهنود وحدهم، إنما الإنجليز أيضًا يعانون نفس العقدة.

جمعتني غرفة مشتركة مع ثلاث إنجليزيات في "هوستل" نزلت به فور وصولي إلى "نيودلهي". كان موعد طائرتهن قبل ذكرى استقلال الهند بأيام رغم أن الرحلة السياحية لم تصل إلى محطاتها الرئيسية. سألت إحداهما عن سبب الرحيل المبكر فقالت: "ليس مبكرًا، ولكن اضطراريًا.. أي إنجليزي يتواجد هنا وقت عيد الاستقلال سيجد معاملة سيئة وسخرية لا حدّ لها، والسفارة نصحتنا بالمغادرة".

اقرأ/ي أيضًا: مجاعة أوريسا.. حين تركت بريطانيا مليون هندي للجوع 

من منطقة "ساكيت" وسط "دلهي"، انطلقت داخل "توك توك"، وضع علم الهند صباح يوم الاستقلال، لمشاهدة الفعاليات في "بوابة الهند"، حيث ألقى الرئيس بروناب مخرجي كلمته داخل القلعة الحمراء وأعلن بداية الاحتفالات.

والهنود في حالة احتفال ورقص وموسيقى متواصلة، تقديم العروض لإحياء هذا العيد مناسبة هي الأهم في تاريخ الدولة الراقدة في حضن الجبال. ينطلق كل شيء بكنس الشوارع، وتزيين قصر الرئاسة بشكل يليق باليوم، وبعد كلمة الرئيس انطلقت 21 طلقة في الهواء مع ترديد النشيد الوطني "جانا غانا مانا". وارتفعت الأعلام في مواكب تتجوّل بين شوارع "نيودلهي" يومًا بليلة، فرغم أن كل المحال التجارية والشركات تغلق أبوابها بعد الثامنة مساء، وتتحول العاصمة إلى مدينة أشباح، ومستعمرة للمتسوّلين، لكن تظل المواكب الاحتفالية مستمرة طوال الليل لمواطنين يرفعون أعلام الهند احتفالًا بالاستقلال.

الأكثر حضورًا في احتفالات عيد الاستقلال الهندي هم الطلبة، يرتدون ملابس ملوّنة ويقدمون عروض رقص شعبي، وأغنيات وطنية وتراثية

الأكثر حضورًا هم مجموعات الطلبة، فلا شيء يجري هنا دون أن يكون لهم ضلع فيه، يرتدون ملابس ملوّنة ويقدمون عروض رقص شعبي، وأغنيات وطنية وتراثية. بدأ يومهم مبكرًا عند مبنى البرلمان، ثم ينقسمون في عروض رقص، ثم يدخل المدرّس الهندي إلى الساحة ليؤدي دوره ويطعم الأطفال السكر المخلوط بالينسون في الفم لتكون أيامهم حلوة كطعم السكر. وتصل الألوان إلى الطيور، إذ يلوّن الهنود العصافير والغربان والحمام في عيد الاستقلال، ويتركونها تنطلق، وقال لي صديق هندي يدعى كانورامي عن هذه العادة: "من حق كل الكائنات أن تحتفل وتشعر بالحرية في هذا اليوم".

اقرأ/ي أيضًا: الدول العشر الأكثر خطرًا على النساء في العالم

ذكرى الاستقلال إجازة رسميّة وإجبارية في الهند، ليس مسموحًا للمحال أو الشركات أن تفتح أو تقدم خدماتها، وأكثر من ذلك أن محال الملابس والأجهزة الإلكترونية لا بد أن تقدم خصومات تصل إلى 70% على جميع منتجاتها خلال الأسبوع الذي يسبق العيد، حتى "الماركات" العالمية، معظمها قدّمت خصومات هائلة لأنه "من حق الجميع أن يحتفل، ويفرح، ويعبّر عن نفسه بالطريقة التي تناسبه في هذا اليوم".

ولأن القوة الناعمة إحدى مدافع الهند التي تحارب بها، ولذلك ظهرت "بوليوود" كحصان أسود وسط سينما العالم، قدمت أفلامًا تعرضها القنوات مجانًا احتفالًا بعيد الاستقلال، وهي قائمة محفوظة لا تتغيّر ربما لأن السينما الهندية تترفّع الآن عن إنتاج الأفلام الوطنية ودخلت معركة الدراما، فلم يعد الرقص والأغنيات الشعبية تأخذ حجمًا ضخمًا من الأعمال، وتوقف الممثّلون عن الطيران، وأشهر الأفلام "the rising".

ورغم كل ذلك، هالني ما رأيت ليلة عيد الاستقلال، بالقرب من محطة قطارات نيودلهي، فالمتسوّلون وسائقو "التكاتك" في حالة غضب من المجتمع، وحالة الغضب قادتهم إلى انفصال عن الواقع، فالناس كلها تحتفل بذكرى الاستقلال، وهم متفرّغون لتدخين السجائر المحشوّة بـ"الحشيش"، الذي يطلق عليه "هاش" وأسعاره رخيصة، ولا يعاقب عليه الأمن.

اقرأ/ي أيضًا:

هل ستسقط "الاقتصادات الصاعدة"؟

عن الأكلاف الاقتصادية للإرهاب