11-يوليو-2016

الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف مع الرئيس الجنوب إفريقي ورئيس الوزراء الهندي (Getty)

لن يكون هناك تكتل من "الاقتصادات الناشئة" ينتفض لتحدي النظام الغربي. لكن ما سيحدث لاحقًا قد يكون أكثر فوضوية وخطورة، المقال التالي ترجمة لمقال في "فورين بوليسي" يناقش تحولات ومستقبل تلك الدول التي كانت مرشحة في الماضي القريب لتلعب دور القوى العالمية الجديدة.

 كان صعود القوى الناشئة يقوم على افتراض أنها مستقرة داخليًا وقادرة على ومستعدة لممارسة نفوذٍ عالمي، وهو ما اتضح عدم دقته

___

بينما يعكف المحللون والباحثون على كتابة مسوداتهم الأولى لتاريخ السياسة الخارجية لإدارة أوباما، سوف يعالج أحد الفصول بالتأكيد ما كان يعرف يومًا بـ"القوى الصاعدة"، وهي مجموعة ضمت البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وآخرون. لكن تفاؤل عام 2008 -عندما كانت ما تدعى بـ"دول البريكس" صاعدة ومستعدة لإعادة تشكيل الاقتصاد والسياسة العالميين- قد أصبح محل شك. محاكمة الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف وفضيحة المنشطات الروسية التي لا يمكن سوى لسوفيتي أن يفخر بها ليستا إلا أحدث العلامات الجلية على أن اندفاعة للدول حديثة القوة تقوم جماعيًا بإعادة تشكيل المسرح العالمي لا تعد شيئًا مؤكدًا. منذ بضعة أعوامٍ فقط، كان تمزقٌ مميت في أوروبا ليستدعي صياحًا بشأن "أفول الغرب وصعود البقية". اليوم، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا: أوروبا في حالة فوضى، كما هو حال العديد ممن كان يمكن أن يكونوا مستفيدين من اضطرابات القارة.

وبينما تتطلع الولايات المتحدة لقدوم إدارةٍ جديدة في يناير المقبل، فإن نهجها تجاه علاقات القوة العالمية المتغيرة سوف يكون جديرًا بإعادة التفكير. كونها لا ترقى إلى مجموعة جديدة من الدول الديمقراطية الحليفة أو ثقل متماسك يوازن النظام الغربي، يتضح أكثر فأكثر أن الدول حديثة القوة أقل قابلية للتوقع وأكثر تفككًا وأكثر تعزيزًا في نهاية الأمر لقوة الولايات المتحدة أكثر حتى مما توقعت مؤسسة واشنطن الاستخبارية منذ عقدٍ مضى.

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل وعضوية الاتحاد الإفريقي..احتمالات وتداعيات

في الأعوام الأخيرة لإدارة جورج بوش الابن والجزء المبكر من أعوام أوباما، بدا أن القوى الصاعدة أو التي عرفت بـ"الناشئة" قد فتنت مؤسسة السياسة الخارجية. قامت المؤسسات ومراكز الأبحاث بتنفيذ مشاريع وعقد مؤتمرات وإعداد تقارير عن القوى الصاعدة. كان بعضها شديد الثقة. توقع محللون، من بينهم آن-ماري سلوتر وجون اكنبري من جامعة برنستون، صعود مجموعة من الديمقراطيات الجديدة -تتصدرها البرازيل والهند وجنوب أفريقيا- سوف تتحول إلى حلفاءٍ طبيعيين للولايات المتحدة. أيد الجميع بدايةً من جون ماكين وانتهاءً بمادلين أولبرايت (والتي روجت للفكرة قبل نحو عقد من إدراك الآخرين لها) توحيد الديمقراطيات في تحالفٍ عالمي يقوم على القيم المشتركة والعمل المشترك.

على الجانب الآخر، توقع أكاديميون ومحللون آخرون أن صعود القوى الجديدة لا يمكن أن ينذر إلا بأفولٍ أمريكي. في عام 2010، تنبأ ألفريد ماكوي الأستاذ بجامعة ويسكونسن-ماديسون بـ"انهيارٍ امبراطوري" و"تذكيراتٍ يومية مؤلمة بما تعنيه مثل تلك الخسارة للأمريكيين في كافة مناحي الحياة". شرحت دراسة مفصلة أعدها مسؤولون من القوى الصاعدة ونشرتها مطبعة جامعة أوكسفورد عام 2012 "أوجه التآزر والتكامل" التي "أطلقت بالفعل دول البريكس إلى موقعٍ قيادي" عالميًا. كما كتبت سوزان جراتيوس الأستاذة بجامعة مدريد المستقلة عام 2008: "في الأعوام الأخيرة تحدت مجموعة من الدول الناشئة وضع هيمنة القوى القديمة، والتي تسقط من قمة هرم التسلسل الاجتماعي الدولي". تنبأ المتشائمون بأن تضاؤل الأهمية النسبية للولايات المتحدة سوف يماثله فقط ذلك الخاص بأوروبا، مدشنين ما أسماه المؤرخ تيموثي جراتون آش "التشاؤم الأوروبي Europessimism"، وهو شعورٌ متنام بأن مجموعة الدول الصاعدة سريعًا المكونة من الصين والهند والبرازيل وروسيا سوف تتخطى القارة تدريجيًا.

الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجانبان هو أن تلك التحولات التي أحدثتها القوى الصاعدة سوف تكون هائلة. في "رسم خريطة المستقبل العالمي"، وهو تحليل مؤثر نشره مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي عام 2004، توقع خبراء الاستخبارات أن القوى "الصاعدة حديثًا" -الصين والهند وربما آخرين مثل البرازيل وإندونيسيا- لديها إمكانية إبطال التصنيفات القديمة التي كانت تقسم الدول إلى شرق وغرب أو شمال وجنوب أو منحازة وغير منحازة أو متقدمة ونامية". نُشر التقرير في الصحف تحت عناوين مثل "رؤية 2020: تقرير لوكالة المخابرات المركزية يتوقع أن الهيمنة الأمريكية العالمية قد تنتهي خلال 15 عامًا".

ليس بهذه السرعة، كما اتضح. تبخرت العديد من الافتراضات التي تقوم عليها تلك التوقعات في العقد التالي. كانت بداية التركيز العالمي على القوى الصاعدة تحليلًا صدر عام 2001 أعده جيم أونيل من مؤسسة جولدمان ساكس، والذي تنبأ بحدوث معدلات نمو أسرع وأكثر استمرارية بين الاقتصادات الناشئة التي سوف تموضع أنفسها بحيث تهيمن على المسرح العالمي تدريجيًا، تاركين فقط في نهاية المطاف الولايات المتحدة واليابان من بين القوى الصناعية التقليدية ضمن الاقتصادات الستة الأكبر في العالم. ركز البنك على البرازيل وروسيا والهند والصين – وهي مجموعة أسماها أونيل "دول البريك BRICs " ولاحقًا، "البريكس BRICS"، بعد إضافة جنوب أفريقيا. بينما كان تحليل جولدمان ساكس مليئًا بالمحاذير، إلا أن الخبراء السياسيين قد ركزوا على التوقع المثير لنموٍ سريعٍ ومستمر للاقتصادات الناشئة. دفع تعيين جولدمان لـ"دول البريك" على أنها الاقتصادات الناشئة "الأكثر احتمالًا للنجاح" موجة من المتنبئين إلى صياغة اختصاراتهم الخاصة: ميست MIST (المكسيك وإندونيسيا وكوريا الجنوبيا وتركيا – والتي حددها أونيل بصفتها التالية بعد دول البريك) وسين SANE (جنوب أفريقيا والجزائر ونيجريا ومصر – وهي ما يفترض أنها الدول الواعدة في القارة الأفريقية). ذهبت صحيفة الجارديان البريطانية إلى حد نشر معجمٍ كامل لمدينة أبجدية الأسواق الناشئة.

بعد 15 عامًا، تتداعى العديد من دول البريكس تلك (ناهيك عن دول ميست وسين)، ينهكها السعي وراء المصلحة الذاتية وفقاعات الأصول وإغماءات أسواق الأسهم وتقلبات السلع والعدد المحدود من العمالة منخفضة الأجر. في تحذيرٍ نُشر في فبراير، توقع البنك الدولي نموًا بقيمة سالبة في البرازيل وروسيا، وما يتجاوز 1% بقليل في جنوب أفريقيا، ونموٍ ثابت بنسبة 7.8% في الهند، ونقصٍ في النمو المتوقع بالصين ليصبح 6.7% فقط. الأمر كما صاغته صحيفة فايننشال تايمز هو أن: "ما كان يومًا ألمع شرارة في الاقتصاد العالمي أصبح اليوم أكبر صداعٍ له". في أواخر العام الماضي، أغلقت جولدمان ساكس أخيرًا صندوق البريكس الاستثماري الخاص بها، والذي فقد 88% من قيمته منذ أعلى مستوىً له عام 2010.

تأثرت الديمقراطيات الصاعدة بهوياتها ما بعد الاستعمارية، مؤكدةً على إعطاء الأولوية لاحترام السيادة على الضرورة الأخلاقية لحماية المدنيين

لا تتعلق المشكلات بالاقتصاد فقط. سياسيًا، أثبتت العديد من دول البريكس كونها غير مستقرة على نحوٍ مماثل. كان صعود القوى الناشئة يقوم على افتراض أنها مستقرة داخليًا وقادرة على ومستعدة لممارسة نفوذٍ عالمي. بينما سلط بعض المحللين الضوء على الفساد والضعف المؤسسي والاختلال السياسي بوصفها مخاطر، إلا أن تلك المخاوف كان يتم عادةً تنحيتها إلى الهوامش. كان يتم تصوير الأمر كما صاغه مشروع مجلس الاستخبارات القومي 2020 في تقريره: "فقط نكوصٌ مفاجئ عن عملية العولمة أو اضطرابٌ هائل في تلك البلدان يمكن له أن يمنع صعودها".

اقرأ/ي أيضًا: نتنياهو يفتح إفريقيا.. سر الزائر والزيارة

لكن في جنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا، كان الفساد وإخفاقات الحكم كارثيين. سواء كنت تعتقد أن (الرئيسة البرازيلية ديلما) روسيف يتم استهدافها عن حق أو التضحية بها ظلمًا -وأيًا كان ما تعتقده بشأن الاتهامات بأن خليفتها المؤقت يقوم بتبادل المنافع مقابل التصويت لصالح محاكمتها- فإن لا شيء من ذلك يصب في صالح كفاءة الحكم في البرازيل. في جنوب أفريقيا، قاوم الرئيس جاكوب زوما بصعوبة حملة تطالب بمحاكمته ويتمسك الآن بمنصبه كبطةٍ عرجاء فيما يعتبر فعليًا ديمقراطية حزب واحد. بينما تستمر سلطات مركزية قوية في السيطرة على روسيا والصين، إلا أن حملاتهما التي تتزايد شدتها لقمع المعارضين والمحامين والرموز الثقافية المؤثرة تدل على أنظمةٍ قلقة من استثارة الفساد والتباطؤ الاقتصادي لمواطنيها.

فيما مضى عندما كانت نظرية القوى الصاعدة سائدة، اختلف المنظرون بشأن ما يمكن توقعه من سياساتها الخارجية. توقع البعض أن تصطف الديمقراطيات الرائدة مع واشنطن، بينما تنبأ آخرون بنشوء تكتلٍ سياسي صلب من دول البريكس يحجّم النفوذ الغربي. لم تتحقق أيًا من الرؤيتين. في مقاربتها تجاه حقوق الإنسان الدولية والتدخل الإنساني، تأثرت الديمقراطيات الصاعدة بهوياتها ما بعد الاستعمارية أكثر بكثير من حلفائها السياسيين المعاصرين، مؤكدةً على إعطاء الأولوية لاحترام السيادة على الضرورة الأخلاقية لحماية المدنيين أو منع الصراعات.

امتنعت البرازيل والهند عن التصويت على قرار مجلس الأمن الصادر عام 2011 والذي سمح باستخدام القوة ضد الزعيم الليبي معمر القذافي، متخوفتين بشأن احتمالية أن يقود التدخل إلى تغيير النظام. كانت مقاربة هذين البلدين وجنوب أفريقيا كتومة بشأن التعامل مع الحرب الأهلية في سوريا، حيث وقفت الدول الثلاث في المنتصف، لكن مع ميلٍ تجاه روسيا والصين أكثر من الولايات المتحدة وأوروبا.

لكن بينما تحطمت الأحلام بـ"اتحادٍ قوي للديمقراطيات"، فشلت أيضًا السيناريوهات الكابوسية التي تنبأت بحائظٍ قوي من دول البريكس في التحقق. بينما تجتمع دول البريكس دوريًا بالفعل كمجموعة، إلا أن معدلات النمو وأعداد السكان ومستويات انبعاثات الكربون والثروات والمؤشرات الأخرى المتفاوتة تقتضي مصالح متباعدة فيما يتعلق بقضايا الاقتصاد العالمي والتجارة والتغير المناخي والانتشار النووي والصراعات في الشرق الأوسط. اتحدت دول البريكس معًا لتكوين بنك التنمية الخاص بهم، في مواجهة صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يهيمن عليهما الغرب. لكن الدولتين الأكثر قوة واستقرارًا في التكتل، الصين والهند، تتزايد خلافاتهما بشأن الإرهاب وطموحات بكين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وما وراءه واستراتيجية نيودلهي في التحوط من خلال علاقاتٍ أقوى مع الولايات المتحدة واليابان.

كان المحللون محقين في جذب الانتباه إلى النمو السريع والدور الدولي المتنامي لمجموعةٍ جديدة من البلدان. أصبحت دولٌ منفردة، من بينها الصين وروسيا والهند، أكثر أهمية بكثير للولايات المتحدة وبقية العالم عما كانت عليه منذ عقدٍ من الزمان. لكن توقع أن هذه المجموعة – كمجموعة – سوف تعيد جماعيًا صياغة علاقات القوى العالمية لم يتحقق. مع انتهاء أغلب برامج ومشاريع القوى الناشئة إلى مصير صندوق استثمار جولدمان ساكس السابق ذكره، على بقيتنا التفكير في الاستنتاجات التي يجب استخلاصها من صعود وأفول مفهوم "القوى الصاعدة".

من المرجح أن يقوي البريكست علاقات الولايات المتحدة ببرلين وأي عاصمة أوروبية أخرى قد تحل محل لندن بوصفها القناة المثلى لواشنطن داخل الاتحاد

تظهر بضع مشاهدات. أولًا، تظل مكانة الولايات المتحدة بوصفها ما أسمته مادلين أولبرايت يومًا بـ"الدولة التي لا غنى عنها" على حالها. الولايات المتحدة ليست كلية القدرة وقد اصطدمت بعنف بحدود نفوذها الدبلوماسي وقدراتها العسكرية في أماكن مثل العراق وأفغانستان. لكن عندما يتعلق الأمر بتحفيز التحرك الدولي وتوفير الصوت الحاسم فيما إذا كان، ولأي درجة، سيتم معالجة صراعٍ عالمي -ليبيا، سوريا، الدولة الإسلامية، أوكرانيا، التغير المناخي، إيبولا، أيًا كان ما تختاره- على مستوىً عالمي، فإنه ليست هناك دولة أخرى تقارب أهمية قرارها قرار الولايات المتحدة. باستثناء روسيا (حيث تدفع الرئيس فلاديمير بوتين رغبة مزدوجة في تحجيم الولايات المتحدة وإدامة سلطته الشخصية)، فلم تسع أي قوة صاعدة أخرى إلى توجيه دفة الأمور أو تحملت التزامٍ بالقيادة خارج منطقتها.

ثانيًا، لا تزال أوروبا مهمة. كان المنطق الضمني لمفهوم القوى الصاعدة هو أنه سوف يترك القارة أثرًا لحقبة ماضية من علاقات القوة. رغم ركودها الاقتصادي والتوعك السياسي وأزمة اللاجئين وصعود اليمين المتطرف، تظل أوروبا، بدرجةٍ كبيرة، أكثر حلفاء الولايات المتحدة استقرارًا وقابلية للاعتماد عليها. بينما وجه البريكسيت ضربةً كبيرة للاتحاد الأوروبي، إلا أنه من المرجح أن يقوي أكثر علاقات الولايات المتحدة ببرلين وباريس وأي عاصمة أوروبية أخرى قد تحل محل لندن بوصفها القناة المثلى لواشنطن داخل الاتحاد. في الوقت الذي يبدأ فيه الكثير من البريطانيين في إدراك مدى أهمية الاتحاد الأوروبي، قد تخرج واشنطن من الأزمة بالمزيد من شعور التقدير للاتحاد. سواء كان الأمر يتعلق بإيران أو أوكرانيا أو تنظيم الدولة الإسلامية أو أي قضية أخرى تقريبًا، فإن الدعم الأوروبي ضرروي -إن لم يعد كافيًا- لتمتع التحرك الأمريكي بالشرعية.

في الوقت الذي أدرك فيه الرئيس أوباما ذلك، فقد اضطر إلى ما وصفته صحيفة بوليتيكو بتحويل محور الاهتمام من محور اهتمامٍ آخر أقل أهمية، متراجعًا عن "إعادة التوازن" إلى آسيا التي بشر بها ليحاول الحفاظ على القارة ككتلةٍ واحدة وسط توتراتٍ سياسية وإنسانية شديدة. بدلًا من سلسلة من تحويل محاور الاهتمام في دائرة، يلغي كلٌ منها تأثير سابقه، تحتاج واشنطن إلى نموذج للقيادة يغطي 360 درجة بالكامل، حيث لا يأتي التركيز على منطقة على حساب المناطق الأخرى. إذا كان الدبلوماسيون الأمريكيون قادرون على السعي وراء اتفاقيات تجارية كبيرة جديدة في ذات الوقت الذي يتباحثون فيه بشأن الاتفاق النووي مع إيران واتفاق باريس بشأن تغير المناخ، فإنه ليس هناك من سبب في أن تكون السياسات الإقليمية المتوازية والقوية بنفس القدر متعارضة مع بعضها البعض.

الاستنتاج الثالث من الصعود غير المنتظم للقوى الجديدة هو أن صعود الصين قد جعل الولايات المتحدة أكثر، وليس أقل، أهمية عالميًا. بدلًا من أن تصبح القوة السابقة التي تنبأ بها كثيرون، أضحت الولايات المتحدة، بسبب تصاعد النفوذ الصيني، حليفًا أكثر أهمية بكثير لعددٍ من البلدان في أنحاء آسيا وما وراءها. بينما يسعى جيران الصين إلى تحصين أنفسهم ضد العملاق القابع بجوارهم، فإن علاقاتهم مع الولايات المتحدة قد توسعت وتعمقت أكثر فأكثر. تحول محور اهتمام الولايات المتحدة نحو آسيا يدفعه الآن الطلب المحلي على الوجود الأمريكي في المنطقة بنفس قدر خوف الولايات المتحدة من التفوق عليها. المحادثات الأخيرة بشأن مبيعات أسلحة بل وحتى إمكانية وجود عسكري أمريكي جديد في فيتنام ليست إلا أحدث تجليات زيادة قوة العلاقات بين الولايات المتحدة والكثير من الحلفاء في المنطقة، من بينهم كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وماليزيا وإندونيسيا.

أيضًا تستدعي حقيقة التقلبات الجيوسياسية إعادة النظر في بعض الوصفات السياسية البارزة التي نتجت عن أدب القوى الصاعدة. شدد الكثير من المحللين على الحاجة الملحة إلى إصلاح مجلس الأمن بحيث يعكس ديناميات قوة عالمية محدثة. دعا المحللون إلى إنشاء مقاعد دائمة للبرازيل والهند في مجلس أمن تعاد صياغته وحثوا الولايات المتحدة على تولي قيادة عملية إعادة الهيكلة، حتى لا تفرض عليها مجموعة معاد تشكيلها على نحوٍ ما.

إذا كان المرء يؤمن بفكرة أن تعديل مجلس الأمن (والذي مازال يعمل كما كان عندما تم تأسيسه عام 1946، حيث تحتفظ بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة بمقاعد دائمة لها حق الفيتو) حتمي في المستقبل القريب، فقد يكون من مصلحة واشنطن الدفع في اتجاه الإصلاح عاجلًا وليس آجلًا. لكن، على عكس الوضع منذ عقدٍ مضى، ليس الحافز للتحرك الآن هو أن الدول المستبعدة قوية للغاية، وإنما لأنها ضعيفة نسبيًا. البرازيل وجنوب أفريقيا، وهما اثنتان من أبرز الطامحين إلى عضوية مجلس الأمن، تترنحان. بينما الهند في حالةٍ جيدة، إلا أن المقاومة الإقليمية لوضعٍ أقوى لنيودلهي لا تزال قوية.

ربما تكون إدارة أمريكية جديدة قادرة على تقديم اقتراح لمعالجة تكوين مجلس الأمن الذي عفا عليه الزمن بينما يديم مجلس تستطيع واشنطن العمل معه. لن تكون الكثير من الدول راضية تمامًا باقتراحاتٍ بترك أغلب بنية مجلس الأمن (ومن بينها المقاعد الخمسة المصيرية التي لها حق الفيتو) كما هي بينما يتم إنشاء نحو نصف دزينة من الأعضاء شبه الدائمين الذين يشغلون مقاعدهم لفترة تتراوح بين أربع إلى خمس سنوات قابلة للتجديد. لكن واشنطن وآخرين كثر يمكنهم التعايش مع تلك النسخة المتواضعة من الإصلاح. قد تستفيد الولايات المتحدة من المساعدة في تحقيقها بدلًا من انتظار وقت تكون فيه القوى الجديدة قد عادت إلى وضعٍ يسمح لها بالمطالبة بالمزيد.

لدى المرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب ميلٌ إلى وصف القوى الصاعدة بعباراتٍ أبوكاليبتية: في عام 2007 قال ترامب "لقد تحولنا من تلك القوة الهائلة التي كانت تُحترم في جميع أنحاء العالم إلى نوعٍ من الأضحوكة. وفجأة، أصبح الناس يتحدثون عن الصين والهند وأماكن أخرى". هذا العام، كرر ترامب تنبؤه بـ"تسونامي اقتصادي" صيني سوف "يجتاح" الولايات المتحدة. نظرت منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، إلى القوى الصاعدة براجماتيًا، حيث ساعدت في هندسة تركيزٍ أمريكيٍ أكبر على آسيا وإقامة حواراتٍ استراتيجية منتظمة مع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.

عندما كانت في منصب وزيرة الخارجية، قاومت كلينتون الدعوة إلى تمييز مجموعة مختارة وعملت بدلًا من ذلك على تكوين مجموعة واسعة من الشركاء، تضم إندونيسيا ونيجريا والفلبين وكينيا وتشيلي واليابان وآخرين كثر. ذلك النهج تجاه التحالفات -الاستثمار على نطاقٍ واسع، مع العلم أن بعض الطاقة المبذولة سوف يضيع، وأن علاقاتٍ أخرى سوف تصبح لا غنى عنها، وأنه من الصعب معرفة أيها كذلك مقدمًا- يدرك أن مسارات الدول لا تحكمها فقط أسس النمو والجغرافيا السياسية، وإنما أيضًا مؤهلات القيادة الفردية والحظ.

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وبعد بدء مكانة الولايات المتحدة العالمية في التعافي من الضرر طويل المدى الذي أحدثته حرب العراق عام 2003، بدأ مفكرو السياسة الخارجية في التعبير عن آرائهم حول ما الذي سيعقب ما دعاه تشارلز كراوثامر يومًا "لحظة القطب الأوحد" بعد انتهاء الحرب الباردة. توقّع ريتشارد هاس من مجلس العلاقات الخارجية حقبة بلا أقطاب، حيث تتوزع القوة على نطاقٍ واسع. بينما تنبأ شيرل شويننجر وآخرون بعالمٍ متعدد القطبية. لكن مصير البريكس المخالف للتكهنات خلال العقد الماضي قد يشير إلى احتمالٍ أكثر إثارةً للقلق: عالمٌ غامض القطبية، حيث تنتشر القوة وتتقلب الحظوظ الوطنية حسب إيقاع أكثر تعقيدًا من أن تعكسه على نحوٍ كاف أي نظريةٍ كانت.

لذا بدلًا من المراهنة بكثافة على فائزين وخاسرين بعينهم، على الولايات المتحدة تنويع رأسمالها الدبلوماسي، مدركةً أن توقع مسار قوى العالم الصاعدة هو عملٌ غير مضمون النتائج على أفضل تقدير.

اقرأ/ي أيضًا:

الإفراج عن سيف الإسلام القذافي.. حقيقة أم إشاعة؟

نفايات إيطالية في المغرب واستياء شعب