31-مايو-2018

النوستالجيا ورقة رابحة في الدين والسياسة والإعلام (pexels)

النوستالجيا دائمًا تربح. النوستالجيا هي الورقة الرابحة في الإعلان التلفزيوني وفي الدين وفي السياسة. ويبدو أنها تربح أيضًا في الدراما الرمضانية. في مصر تحديدًا تتحول النوستالجيا إلى كلمة سحرية لمداواة قبح مرور الزمن على كل شيء، على الشوارع، وعلى الحالة الاقتصادية، وعلى روائح الهزيمة في الشوارع المختلطة بروائح القمامة.

في مصر تحديدًا تتحول النوستالجيا إلى كلمة سحرية لمداواة قبح مرور الزمن على كل شيء. النوستالجيا دائمًا تربح

ولطالما روجت صفحات على فيسبوك عن مصر القديمة، التي لم يعشها مواليد السبعينات والثمانينات فضلًا عن التسعينات. مصر التي عرفت المليم والريال والقرش، تلك العملات المرتبطة بأحاديث عن الماضي، أو ببيت بيرم التونسي الساخر: "ولا حد بيبيع حاجة يقول بريال وتاخدها بصاغ"، كناية عن سوء ذمة البائع أمام المشتري الحائر.

اقرأ/ي أيضًا: "زمان وأيام زمان".. تجليات النوستالجيا في حياتنا اليوم

صفحات على فيسبوك كانت تضع مقارنة بين مصر الملكية، حيث السيدات "الشيك" يرتدين أحدث صيحات الموضة، وبين نساء بغطاء رأس طويل، بنظرة فوقية وطبقية، من هؤلاء الذي يضعون أنفسهم فوق الناس وفوق أمزجتهم ومعتقداتهم. 

قراءة فيما وراء المظاهر 

مسلسل ليالي أوجيني الذي يُعرض هذه الأيام، نموذج جيد على هذا الطرح، فالملابس فاخرة (باستثناء الطبقة الأفقر التي ظهرت ملابسها أيضًا أنيقة ومرتبة) والشوارع نظيفة، ومن المفترض أن التصوير يتم في بلدة صغيرة مثل بورسعيد، حيث المسافات قصيرة والتنقلات معظمها بالحنطور، الذي تحول هذه الأيام إلى سمة سياحية ذات أجرة متضاعفة باستمرار، يركبه السياح القادرون على دفع ثمنه السياحي بطبيعة الحال.

أوجيني التياترو أو المكان البطل في المسلسل، حيث فيما يبدو أن محافظة صغيرة مثل بورسعيد، تحتضنه دون غيره؛ تياترو جميل فاخر أيضًا، وبطلته راقصة لعوب. وعلى الرغم من براعة تشابك الأحداث بين الأبطال، والتي لا تمثل محورًا موضوعيًا في هذه المساحة، إلا أن القصة حتى الآن استطاعت بجوار الأحداث، إعادة تأجيج الحنين إلى تلك الحقبة التي افتقدها الناس، رغم الطبقية، وأجواء الحروب العالمية التي كانت تدور في الخلفية.

عديد من صفحات فيسبوك تضع مقارنات مستندة إلى النوستالجيا، بين مصر قديمًا ومصر الحالية، لا تخلو من الطبقية والاستعلاء

يتحدث المفكر قدري حفني في كتابه "العنف بين سلطة الدولة والمجتمع" عن جوانب أخرى لا تتحدث عنها تلك المسلسلات، فيحكي من مذكرات محمود المليجي المحامي رئيس حزب مصر الفتاة، عن سنوات اعتقاله إبان عهد الملكية، فيقول: "عندما علمنا أن الاضطرابات لا زالت مستمرة، وأن أيام المعتقل يبدو أنها ستطول، طلبنا شراء أدوات للزراعة وبذور للنباتات، وزرعنا الخيار والخس والجرجير وغيرها". 

اقرأ/ي أيضًا: السامر الشعبي في مصر.. حكايات الناس والشوارع

ويضيف: "ثم طلبنا من إدارة المعتقل شراء معدات تنس الطاولة مع المضارب والكرات، ورحنا نقضي وقتنا صباحًا بالقراءة والزراعة، مساءً بعلب البنج بونج، والسمر".

ويقول في موضع آخر: "وعندما طالت أيام الاعتقال، طالب المعتقلون بالخروج في نزهات محددة فهم ليسوا مساجين! ووافق الحكمدار على أن يصطحب بعض الضباط المعتقلين في مجموعات، إلى بعض الأماكن التي تصلح للنزهة في مدينة المنيا، فكان المعتقلون يذهبون إلى السينما أو لتناول العشاء في المطاعم أو للتنزه في الحدائق، حتى إذا ما حانت الساعة الثامنة، يعود المعتقل إلى سجنه".

هل للنوستالجيا غرض؟

لكل نوستالجيا غرض ولكل غرض حكاية، وهي غالبًا حكاية البيع، فالنوستالجيا خدمت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين رفع شعار "سنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" مستدعيًا أمريكا أخرى غير تلك التي يعيشها الأمريكون الآن، أكثر عظمة وفتوة في المزاج الشعبي الأمريكي الساذج. والنوستالجيا، في البيع والشراء، تبيع جيدًا، فكلما كان الشيء في جودة القديم و"ما في منه الآن"، كلما غلا ثمنه وزاد الطلب عليه.

خدمت النوستالجيا ترامب حين رفع شعار "أمريكا عظيمة مرة أخرى"، مستدعيًا من الماضي المتخيل أمريكا أخرى غير التي يعيشها الأمريكيون الآن

أما النوستالجيا التي يروج لها بعض التنويريين اسمًا، فهي نوستالجيا الملابس والأسعار والشوارع النظيفة. هي نوستالجيا انتقائية، لها أهداف طبقية، وتنطلق من رؤية استعلائية. هي نوستالجيا لا تعاقب اليد التي امتدت على التاريخ، بل تباركها، وتتغاضى عنها أحيانًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا

سيرة مشوّهة لمواطن مصري ندهته نداهة القاهرة