04-يوليو-2016

أحد أحياء القاهرة (Getty)

استكمالًا لمسلسل الهجرة إلى المجهول اعتمد البرلمان المصري قبل أيام مشروع الموازنة العامة لعام 2016/2017. البرلمان الذي ناقش المشروع، في أجواء غلبت عليها الحماسة الفاترة والمعارضة المتهافتة، أعلن ولاءه الكبير مرة ثانية للسيسي وحكومته، غير مبال باعتراضات الكتلة البرلمانية المعارضة للمشروع (المصريين الأحرار ومجموعة أخرى من الأحزاب والمستقلين)، وواثقًا من عدم قدرة تلك الكتلة على إسقاط الموازنة عند التصويت طالما أن نواب "ائتلاف دعم مصر" موجودون تحت القبة وطالما أنهم يعلمون "الحدود المقبولة للمعارضة" ويدركون الأوقات التي تستلزم السير الكامل في ركب النظام.

في الموازنة العامة تم تخصيص 53,3 مليار جنيه لقطاع الصحة، وهو ما يقل عن 2% من الناتج المحلي المتوقع، وأقل من الـ3% التي نصّ عليها الدستور

على مدار يومين تطايرت الاتهامات ودارت الدوائر المختلفة ببيانات وتصريحات وتعليقات وملاحظات تخصّ الموازنة العامة الجديدة، ولكن في النهاية قال البرلمان كلمته وعاد الجميع إلى مكانه. أما فحوى الموازنة نفسها فتظل إعجامًا يستعصي على المواطن العادي فهمه، ولكنه بدوره يمكن وصفه بغير المشغول بكل تلك "الخناقات" الدائرة حولها ولا يفكر سوى في تدبير احتياجاته الأساسية من السلع والخدمات.

المواطن "العادي" لم يكن طرفًا في تلك المعارك "النخبوية"، التي لا يفهم أبعادها بعض نواب البرلمان نفسه، ولا يهتم بها من الأساس إلا بمقدار قدرتها على حل ظروف عيشه الصعبة. هذا المواطن الذي لا ينشغل ولا يشتبك مع المشروعات التي تؤثر على حياته بصورة مباشرة ليس هو النموذج الوحيد في المجتمع المصري، فهناك آخرون يحاولون فهم الأسباب التي تجعل الدولة تنفق على تسليح الجيش أضعاف ما تنفقه على التعليم، أو تنفق على الداخلية أضعاف ما تنفقه على الصحة، أو يتساءلون عن ترتيب أولويات الحكومة في الإنفاق على قطاعات مثل الكهرباء والصحة والتعليم والصرف الصحي.

ربما كان أحد عوارض -أو فوائد- ثورة 25 يناير هو ذلك الحوار المجتمعي، في إطاره النخبوي، حول مشروع الموازنة والصراع على تحديد الأولويات والضروريات، وهو الأمر الذي يذكرنا بوجودنا جميعًا في دولة لم تحسم بعد هويتها وانحيازاتها وطريقة معالجة مشكلاتها المزمنة. ومثلما يحدث في المناقشات البرلمانية، تتشابه الحوارات الدائرة حول الموازنة، فهذا يداهن الحكومة بلا شروط، وذاك يوافقها ولكن بشروط، وثالث يرفضها جملة وتفصيلاً، ورابع يحسم موقفه بناء على قناعات إيديولوجية أو ظهورات إعلامية، وخامس يحاول تحليل مواطن الخلل في المشروع. وما بين صخب المناقشات والتلاسنات والمواءمات تحت قبة البرلمان واحتدام الجدل والأحاديث بين المواطنين المهتمين تبقى مواطن الخلل في الموازنة العامة الجديدة بادية للجميع، ولكن كل منهم يختار التركيز على ما تسمح به حدود الودّ والتناغم البرلماني والمجتمعي.

النائب علاء عابد، رئيس كتلة "المصريين الأحرار"، أعلن رفضه لمشروع الموازنة الجديدة واعتبرها "موازنة شركة خاسرة وليست موازنة دولة"، واتهم الحكومة بأنها غير قادرة على تلبية مطالب الشعب المصري من خلال موزانة تعتمد على الاقتراضات وزيادة الضرائب، في الوقت الذي تهمل فيه قطاعات مهمة مثل التعليم والصحة. وفي تصريح ناري قال "إن مشروع الموازنة الجديدة شبيه بموازنات ما قبل الثورة، بل وأسوأ منها". والحقيقة أن كلام النائب والأسلوب الذي تم به تمرير مشروع الموازنة الجديدة يذكرنا كثيرًا بالأوضاع أيام مبارك، حيث اعتراضات المعارضة على مشروعات الموازنة في مقابل اعتماد الدولة كليًا على زيادة مواردها من خلال زيادة الضرائب. ولكن موازنة السيسي تتفوق على موازنات مبارك في أنها مُخالِفة للدستور الذي أقسم وقت توليه الحكم على احترامه.

اقرأ/ي أيضًا: المصالحة مع إسرائيل..تركيا تراجع موقفها الإقليمي

مخالفات دستورية

الموازنة التي تم اعتمادها تشوبها عيوب كثيرة، أولها عدم الالتزام بمواد الدستور وتأثير القوانين المكملة له، فالدستور ينص على على زيادة الإنفاق العام على كل من الصحة والتعليم والبحث العلمي بنسبة 10% من الناتج القومي المحلي، وهو ما يعني الوصول بحجم الإنفاق على هذه القطاعات إلى 277 مليار جنيه، وهو ما لم يحدث. فبحسب الموازنة الجديدة تم تخصيص 53,3 مليار جنيه لقطاع الصحة، وهو ما يقل عن 2% من الناتج المحلي المتوقع، وأقل من الـ3% التي نصّ عليها الدستور. كما تم تخصيص 104 مليار جنيه لقطاعي التعليم والتعليم العالي، وهي أقل بكثير من الـ7% المقررة في الاستحقاق الدستوري. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تم ضم مخصصات إضافية إلى قطاع الصحة تشمل هيئة التأمين الصحي ومستشفيات القوات المسلحة والشرطة التي تعالج مدنيين وشركات الأدوية وهيئة المصل واللقاح إضافة إلى خدمات المياة والصرف الصحي. كذلك الأمر مع التعليم، الذي أضيف إليه التعليم الأزهري والمنح الدراسية وهيئة اعتماد الجودة. في الوقت نفسه رأت لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان أن توصيتها بزيادة أجور وزارة الداخلية بمليار و556 مليون جنيه "أقل من المطلوب"!

 في الموازنة العامة الجديدة تم تخصيص 104 مليار جنيه لقطاعي التعليم والتعليم العالي، وهي أقل بكثير من الـ7% المقررة في الاستحقاق الدستوري

وإذا كانت المادتان 18 و19 من الدستور المصري تنصان على حق المواطن في الرعاية الصحية المتكاملة، والتزام الدولة بتخصيص نسبة إنفاق لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تصل إلى المعدلات العالمية، كذلك التزام الدولة بتخصيص نسبة لا تقل عن 4% من الناتج القومي للتعليم ونسبة 3% للتعليم العالي والبحث العلمي، تتصاعد تدريجيًا حتى تصل إلى المعدلات العالمية؛ فإن الذي حدث في الموازنة الجديدة هو تصاعد المبالغ المخصصة بالفعل ولكنه تصاعد ذاتي وهمي تم تدبيره وإلصاقه غصبًا، بناء على تقديرات متفائلة من قبل خبراء الحكومة.

اقرأ/ي أيضًا: ماهي تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟

الحكومة متفائلة جدًا

وبحسب خبراء اقتصاديين، فإن الطريقة المثلى لحساب المخصصات يجب أن تحسب من الناتج المحلي الفعلي وليس الناتج القومي، ويرى هؤلاء أن ثمة إفراط حكومي في التفاؤل من حيث نسبة النمو الاقتصادي، والدين العام، ونسبة العجز. فبينما تتوقع الموازنة معدل نمو الناتج المحلي عند 5,2% يتوقع صندوق النقد الدولي متوسط عالمي للنمو 3,2%. التفاؤل الحكومي ذاته يظهر في توقع الموازنة لزيادة الإيرادات الضريبية بنهاية العام المالي القادم بنسبة تزيد 19,5% عن المتوقع تحقيقه في العام المالي الحالي لتصل إلى 433 مليار جنيه، وأن تبلغ الضرائب والجمارك المحصّلة من التبغ وحده 10% من إجمالي الإيرادات الضريبية. هذا التفاؤل لا مبرر له في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتراجع مستوى المعيشة لعدد كبير من المواطنين والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها قطاعات واسعة من الشعب، ولكن الحكومة مصرة على أن الحصيلة الضريبية للعام المالي القادم سترتفع بنسبة 20% عن العام الحالي.

وبينما تعول الحكومة على القطاع الخاص في تحقيق الجانب الأكبر من النمو، يبقى في النهاية دوره محدودًا في تحفيز ذلك النمو المستهدف والمتوقع لأنه يتحقق أساسًا بالاستهلاك وليس بالإنتاج، ولأن البنوك التجارية، التي تشتري السندات الحكومية التي تصدرها الحكومة لتمويل العجز في الموازنة، تتفرغ لتمويل العجز بفوائد ضخمة وتتكاسل عن دورها الحقيقي في إقراض القطاع الخاص لتمويل استثماراته التي تحقق النمو الاقتصادي وتخلق فرص العمل.

مصروفات في علم الغيب وعدالة غائبة

قبل عامين أقرّ السيسي ضريبة على الأرباح التي يحققها المتعاملون في البورصة بيعًا وشراء وعلى توزيعات الأرباح وعلى صفقات الاستحواذ وعلى ضريبة الثروة المؤقتة لمدة ثلاث سنوات والتي تقدر بنسبة 55 على من يزيد دخله على مليون جنيه. حينها كان ثمة حملة نقد عنيفة قادها رجال الأعمال وأصحاب المال لتلك الضريبة وهم الذين أتوا بالسيسي إلى كرسي الحكم، فتقرر تأجيل العمل بها عامين وهي المدة التي تنتهي خلال العام المالي الجديد في مايو 2017. وفي الوقت الذي لم تأتِ الموازنة الجديدة على ذكر الضريبة المُعطّلة، والتي كان يمكن لها أن تدخل حوالي 7 مليارات جنيه لموارد الدولة، بحسب تقديرات سابقة لوزير المالية السابق هاني قدري، في المقابل نرى تخصيص الحكومة مبلغ يصل إلى 58 مليار جنيه تحت بند تسميه "المصروفات الأخرى"، أي المصروفات المبهمة التي لا نعرف أين يتم إنفاقها، وهو يمثل 6,2% من إجمالي المصروفات. وقد حددت الموازنة أهم تلك المصروفات في الاعتمادات المخصصة للدفاع والأمن القومي والجهات ذات السطر الواحد مثل القضاء والمحكمة الدستورية وجهاز المحاسبات ومجلس النواب.

من ناحية أخرى، تؤكد الدولة على تدخُّلها ببرامج للحماية الاجتماعية لمحدودي الدخل، وعدم انتظارها لثمار "النمو" على النحو الذي توقّعته في الموازنة، فنجد أن نسبة الاستثمارات الموجهة لقطاع الحماية الاجتماعية لا تتعدى 0,1% من إجمالي الاستثمارات. وللمفارقة الساخرة نجد أن برنامج الدعم الاجتماعي "تكافل وكرامة"، الذي تتبنّاه الحكومة وتستفيد منه حوالي مليون أسرة، قد خُصّص له في الموازنة الجديدة 4 مليار جنيه، وهو ما يقل عن الرقم المخصص لدعم الصادرات الذي يستفيد منه كبار رجال الأعمال، حيث يصل هذا الدعم إلى 2,6 مليار جنيه، بالإضافة إلى 2 مليار جنيه كاحتياطي يتم إتاحته وقت التنفيذ الفعلي.

والنتيجة؟

تبشرنا الحكومة في الموازنة الجديدة بزيادة مستمرة في الأسعار مع بدء فرض ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات خلال العام المالي المقبل مع وصول معدل التضخم إلى نسبة 11,5% مقارنة بنسبة 9,7% العام الحالي، ومع وصول عجز الموازنة العامة للدولة إلى 11,3% في ختام العام الحالي 2013/2014 والذي من المقدر أن يزيد قليلاً خلال العام المالي المنتهي، فضلاً عن ارتفاع الدين العام المحلي لأجهزة الموازنة والذي وصل إلى 2373 مليار جنيه بنسبة 84% من الناتج المحلي، واستمرار معدل البطالة المرتفع الذي وصل إلى 13% بعدد نحو 3,6 مليون عاطل عن العمل -وفقًا لتقديرات رسمية- مع كل هذه المعطيات فإن التوقع الغالب هو انضمام مجموعة جديدة من المواطنين إلى فئة العائشين تحت خط الفقر، وزيادة صعوبة الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وهو ما ينذر بحالة من الاستياء الشعبي الذي لا يمكن التنبؤ بملامحه وعواقبه.

اقرأ/ي أيضًا:

الجوع..سلاح داعش للسيطرة على سكان الفلوجة

دبلوماسيون أمريكيون يطرحون رؤية أخرى للحرب السورية