13-فبراير-2019

مهاجرون أفارقة في جنوب الجزائر (Getty)

تجدهم مصطفين أمام ورشات البناء، أو قرب محلات بيع الخزف والسيراميك. على الأرصفة واقفين، فرادى ومثانٍ وجماعات، في انتظار شاحنات مقاولاتية يترقبون زبائن في حاجة إلى أعمال البناء أو الترميم أو التكسير، أو أي شغل يحتاج إلى العضلات القوية لهؤلاء الأفارقة المهاجرون. يختلسون النظر ويراقبون الوضع يمينًا وشمالًا. هم في وضعية غير قانونية، مهاجرون غير شرعيون في نظر القانون.

يعمل المهاجرون الأفارقة في أعمال قاسية في الجزائر ريثما يتحقق حلم عبور البحر

تتوقف سيارة تويوتا، يهرع إليها مجموعة من أربعة أشخاص، إشارات بالأيادي فأغلب الأفارقة لا يتحدثون اللهجة العامية، استفسارات ومفاوضات وأخذ وجذب مع السائق حول أسعار الخدمات، تنتهي بالاتفاق أخيرًا، يتسلق ثلاثة أفارقة وراء السيارة، ليبقى سعيد لوحده.  

اقرأ/ي أيضًا: المهاجرون الأفارقة في الجزائر.. شقاء الأحلام

اقتربت من سعيد. كان قوي البنية، أشعث أغبر الشعر، تجاعيد على ملامح وجهه، يصعب تحديد سنه، عيناه حمراوان من التعب، قفازات مقطوعة الأطراف على أصابعه، يرتدي زيًا رثًا لعمال البناء. بدأت الحديث معه عن أسعار خدماته، بعدما اطمئن للحديث معي، استهلنا الكلام عن وطنه وظروف ومدة إقامته في الجزائر، سألته عن المسالك التي أوصلته إلى الجزائر العاصمة.

سعيد من مواليد 2001 بمدينة غاو في مالي، أنهى دراسته في المرحلة التعليمية الأولى فالمدارس هناك بعيدة وقليلة، ظروف اقتصادية واجتماعية وأوضاع أمنية صعبة كانت وراء قرار الهجرة إلى الجزائر بحثًا عن الهدف الأساسي؛ بلوغ أوروبا.

يتذكر سعيد جيدًا مراحل وصوله إلى مدينة تامنغست الجزائرية. عبر مسالك رملية وطرق صخرية وعرة وخطيرة، من مدينة غاو إلى مدينة كيدال إلى غاية الحدود الجزائرية، في هذا الصدد يقول سعيد: الانطلاقة كانت من مدينة غاو، كنا تسعة عشر شخصًا، ثلاث نسوة كن معنا، كانت السيارة تويوتا بيك آب صغيرة مقارنة بالعدد، تم تكديسنا كالسلع والبضائع، الكتف بجانب الكتف، جلسنا في وضعية قرفصاء طوال الطريق يستحيل تعديل القدمين خلال السير، سمح لنا المهربون بحمل حقيبة ظهر صغيرة الحجم، اشتريت بعض البسكويت وقارورة ماء معدنية، تكاليف السفرية مئة يورو للشخص الواحد، مشينا ليلًا نهتدي بالنجوم إلى غاية مدينة كيدال، فريق آخر تسلم السيارة، اندفعنا في طرق غير معبدة إلى غاية الحدود الجزائرية، كان علينا الدفع مرة أخرى مبلغ خمسين يورو، ليتولى سائق آخر الطريق إلى غاية مدينة تينزوتين الجزائرية.

مهاجرة من أفريقية في جنوب الجزائر  (Getty)

توقفت سيارة، لاحظت عدم رغبة سعيد في إطالة الحديث معي خشية أن يضيع فرصة عمل، حيث انصرف مسرعًا تجاه السيارة.

أمام بناية لتعاونية عقارية ملك لأحد الخواص، البناية غير مكتملة التقيت بيحيى من ساحل العاج، كان طويل القامة، وسيم له وجه طفولي، كان الجو باردًا، يرتعد من الصقيع، يرتدي ألبسة صيفية رمادية اللون، رثة وقديمة، ينتعل حذاء فيه كثير من الثقوب. حل بالجزائر منذ ثلاث أشهر تقريبًا. يتحدث اللغة العربية بصعوبة قال لي: "أنا محظوظ. درست في الكتاتيب القرآنية".

عندما باشرنا الحديث عن أسباب وظروف مجيئه إلى الجزائر، بدت عليه ملامح الحزن وسالت على خديه دمعة، حينها أدركت أني مع شخص مختلف تمامًا عن آخرين كنت التقيت بيهم. استدرك قائلًا: "هي قصة طويلة. خلال الأزمة السياسية التي اندلعت في ساحل العاج بين سنتي 2010 - 2011 بين الرئيس المنتهية ولايته لوران باغنو والفائز بالانتخابات الرئاسية حسن وتار، كانت مدينتي بانجول مسرح لاقتتال بين العصابات المسلحة، عمت وانتشرت الفوضى، الجيش انقسم إلى طرف يؤيد باغنو وطرف يدعم وتار، حصلت اشتباكات يومية عنيفة.  كان والدي من كبار تجار المنطقة يشتغل في تجارة الكاكاو، قتل أفراد عائلتي بالكامل على يد عصابات مسلحة مجهولة الهوية، لا أعرف هل هو الحظ أم لا، فلم أكن في البيت يومها. كان سني حينها 8 سنوات، قام الجيران وبعض الأقارب بإيوائي والتكفل بي. اشتغلت في مهن شاقة وصعبة: حمالًا، غاسل صحون. بعدها سافرت إلى مالي، واستقريت في مدينة بماكو هناك لأشهر، كنت أشرف على تنظيف مرحاض المساجد مقابل صدقات، الوضع كان أسوأ من ساحل العاج، انتقلت إلى مدينة تمبكتو، كانت الأوضاع هناك خطيرة، متمردون، عصابات مسلحة، اشتباكات دموية.

تم ترتيب السفر إلى الجزائر مع بعض الأصدقاء، كنا ثمانية وعشرين فردًا من مختلف الجنسيات، أطفال ونساء حوامل، كان علينا دفع حوالي خمسمائة يورو لقطع المسافة بين تمبكتو وبرج باجي مختار. ثمانية وعشرون شخصًا محشورين خلف سيارة رباعية الدفع، الحرارة مرتفعة، نتصبب عرقًا، التنفس كان صعبًا، زاد مشقة السفر بكاء الاطفال وأنين النساء الحوامل وصراخ السائق ومرافقيه. في وسط الطريق تعرضنا إلى كمين من طرف متمردين مسلحين ملثمين دون هوية، سرقوا ونهبوا كل ما كنا نملك من مؤن وألبسة، أخبرنا السائق أنه علينا دفع مئة يورو للواحد وإلا أخذو السيارة، وتركونا في هذا المكان الخالي ما يعني الموت الحتمي. بعد ستة أيام سيرًا في الليل وصلنا إلى مدينة برج باجي مختار، لتبدأ مرحلة أخرى من المشاكل والمصاعب.

قبل أن أودع يحيى دعاني إلى تذوق طبق قال لي إنه الاكثر شعبية في ساحل العاج، اعتذرت بلطف بدوري ووعدته بطبق الكسكسي الجزائري.

أصبح ملف المهاجرين الأفارقة يسبّب صداعًا للسلطات الجزائرية نظير تداعيات سياسية داخلية وخارجية

في وسط هؤلاء الأفارقة، تعرفت على الشاب محمد من غينيا، تبدو على ملامحه وثيابه الأريحية، اعتقدت أنه من العمالة الأفارقة، علمت بعدها أنه مقيم بصورة قانونية يشتغل خارج أوقات الدارسة، يدرس في أحد معاهد في العاصمة، استفاد من منحة طالب من الحكومة الغينية، حدثني محمد عن أصدقاء له سافروا من غينيا إلى الجزائر. أوضح لي محمد أن غالبية الغينيين "غير الشرعيين" في الجزائر يرغبون في العبور إلى الحدود الليبية أو المغربية، قصد الوصول سواء إلى إيطاليا، عبر طرابلس أو إسبانيا، عبورًا عبر سبتة وميلية، لذلك قلما تجد عمالًا من غينيا.  

اقرأ/ي أيضًا: المهاجرون الأفارقة في المغرب.. حقوق ضائعة واعتداءات متكررة

تجدر الإشارة إلى أن الحدود الجزائرية تمتد على مسافة 1600 كلم، وهي مساحات واسعة تسمح للمهاجرين الأفارقة إيجاد منافد سهلة للعبور إلى التراب الجزائري، تسجّل الجزائر يوميًا معدل خمسمئة مهاجر، وأصبح الملف يسبّب صداعًا للسلطات الجزائرية نظير تداعيات سياسية داخلية وخارجية، وثمة خلافات حادة حول سبل الوقاية والمعالجة مع المفاوضية الأوروبية لحقوق الانسان، وحسب الإحصائيات الرسمية يبلغ عدد المهاجرين الأفارقة حوالي ثلاثين ألفًا إلى خمسين ألف مهاجر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجرة الشباب المغربي سريًا.. حلم النجاة الأخير!

هجرة أطفال المغرب.. حين يقسو الوطن