09-مايو-2019

رودريغو دي ماتوس/ البرتغال

عندما تفتح صفحة ما على شبكة الإنترنت سوف تلاحقك مئات المواقع التي تسجّل كل تحركاتك. بالنسبة لك ربما تنسى ما قرأته أو ما شاهدته، لكنّ صفحات التعقّب لا تنسى.

يسمي الباحث والمبرمج وولفي كريستل الصفحات التعقّبية بـ"الشخص الثالث"، لأنه يقف بينك وبين الإنترنت، مُدركًا من أنت، وما هو رقم تلفونك وإيميلك وباسووردك وغوغلك وفيسبوكك. قد يكون هذا "الثالث" غوغل أو فيسبوك، أو صفحة دعاية أو برنامج تحليل.

يسمي الباحث والمبرمج وولفي كريستل الصفحات التعقّبية بـ"الشخص الثالث"، لأنه يقف بينك وبين الإنترنت

مهما يكن، أنت مراقب بشكل مرعب. إنه يعرف إن كنت تدخّن، وإن كنت تشرب الكحول، ويعرف رأيك السياسي، ودينك، وعرقك، وشريكك، وعائلتك، وأصدقاءك.

اقرأ/ي أيضًا: صناعة الإنسان المعاصر

ليست المراقبة والتعقب بالأمر الجديد، وليستا مقتصرتين على الدول القمعية وحسب، فالولايات المتحدة تتفّنن فيهما، وواحدة من أعرق مؤسسات التعقب هي مؤسسة الإحصاء الأمريكي، كما تلاحق ذلك جوليا أنغوين، في كتابها "سلطة شبكات التعقب عبر وسائل الاتصال والإنترنت"، حيث تقول إنّ الإحصاء الأمريكي سلّم كثيرين في الحرب العالمية، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، لعب دورًا أساسيًا في حصر الأمريكيين المسلمين أو العرب.

خضع المواطنون في دول الغرب الديمقراطية للعديد من عمليات الإقناع التي لا تختلف في النهاية عن عمليات التعبئة والتدجين في الدول الاستبدادية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية سُجلت نجاحات كبيرة من خلال مواد الشركات العملاقة والوكالات الحكومية، في التأثير بالرأي العام وتوجيهه وتحويل إرادته، أو تصنيعه ومنحه الشعور بأنه حرّ، وهذه ساحة تقاسمتها الإعلانات من خلال صناعة الأيقونات البصرية، في التلفزيون والسينما على السواء، واستطلاعات الرأي من خلال نظرية التأثير الإنجاحيّ، التي تصوّر مُرشحًا من المرشحين للرئاسة على أنه الفائز أو الخاسر، وطبقًا لذلك فإن المرشّح الذي تُظهره الاستطلاعات الأولية متمتعًا بالشعبية ومتقدمًا يُصبح قابلًا لأن يحصد المزيد من التقدم. المثال المعاصر على هذه العملية هو ما فعله غوغل في دعم باراك أوباما خلال سباق الانتخابات الرئاسية عام 2008، على خلفية علاقة مدير الشركة، آنذاك، إريك شميت بمرشّح الحزب الديمقراطي أوباما، إذ أنّ كلًا منهما حمل المنظور نفسه بخصوص إلى أين ينبغي لأمريكا أن تذهب. طبعًا حدث ذلك من خلال تلاعب غوغل بنتائج البحث وإظهار تفوّق أوباما، ما حقّق النظرية الأثيرة للسياسة الأمريكية، نظرية التأثير الإنجاحيّ.

إضافة إلى قضايا البيانات وممارسة التضليل والتوجيه، هناك علاقة وثيقة بين غوغل ووكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA)، وهو ما كشفه المنشق إدوارد سنودن، كما أن مؤسس "ويكيلكس" جوليان أسانج اعتبر شركة عملاق الشبكة ذات نشاط تجسّسي.

تحوّلت المنصات إلى فقاعة وهمٍ نعيشها بفواتير مادية ونفسية، فردية وجماعية، وحالنا فيها تسليعي كما يراه عالم الاجتماع ديفيد ليون خلال الحوار الطويل الذي أداره مع زيجمونت باومان في كتاب "المراقبة السائلة". يقول ليون الذي يُعدّ من أوائل من تنبّهوا إلى دور المنصات التجسّسي: "المعلومات التي تنوب عن الشّخص تتألّف من بيانات شخصية، بمعنى أنها تعود في أصلها إلى جسده، وقد تُؤثّر في فرص حياته واختياراته. فهذه البيانات الآلية التي يجري تجميعها تصير أوثق من الشخص نفسه، الذي كان الأولى أن يحكي حكايته وقصة حياته. ويقول المبرمجون إنهم ببساطة يتعاملون مع بيانات، بمعنى أن دورهم محايد من الوجهة الأخلاقية، وأن تقييماتهم وتمييزاتهم عقلانية وحسب".

يتناول باومان تحييد الأخلاق في مكان آخر من الكتاب نفسه، فيرى أكبر تجسّداته في فصل القتل العسكري عن الأفعال القابلة للتقييم الأخلاقي، إذ لا فرق، ضمن هذا المنظور، بين كبسة زرٍ تشغّل آلة آيس كريم أو التيار الكهربائي، وبين إطلاق العنان لفرسان نهاية العالم الأربعة: الموت والمرض والحرب والجوع.

اقرأ/ي أيضًا: غوغل.. الأخ الأكبر الجديد

أليس هذا هو المنطق الذي يحكم سياسات العالم الذي نعيشه، مُغرقًا الحياة بالمتع والإغراء متجاهلًا الحريات الدستورية وآليات احتكار صنع القرار، وقوانين العمل الجائرة في الغرب نفسه؟ أليس هو العقل المدبّر لأسواق الصناعات الحربية؟ وهل من شكّ أنه من يقف وراء دفع الاقتصادات الوطنية إلى الانهيار؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

جناية الإنترنت.. هل يجعلنا جوجل أغبياء حقًا؟