17-يناير-2021

لوحة لـ جاكوب روسالسكي/ بولندا

في طفولتي كان ينتابني إحساس دائمًا بأني مطارد من شخص أحدب له ذيل طويل ووجه مثلث تتوسطه عين واحدة، لم يكن ذلك حلمًا أو وهمًا، ففي مساءات كثيرة عندما كنت ألعب في حوش بيتنا الصغير الذي انتقلنا له مجددًا، كان يرعبني صراخ رجل مشلول مقعد يتنقل يمينًا ويسارًا في باحة البيت المقابل لبيتنا الجديد، ويصدر أصواتًا ممتزجة مع بعضها البعض وكأن شياطين العالم السفلي قد سكنته، فتسمع تلك الأصوات وكأنها حبيسة قارورة محكمة الإغلاق تئن وتبكي لتنعتق من سجنها.

رغم بعد المسافة وضبابية الرؤية إلا أني كنت أشعر بأنه كان يوجه نظراته إليّ وهو يصرخ ويرتعش، فأهرب خائفًا والتصق وراء جسد أمي شارحًا لها خوفي بأنفاس متقطعة ومرتعشة، فتجيبني: لا تخف ماما إنه رجل مسكين ومريض.

لم أقتنع بكلام أمي في حينها وظل الخوف ملازمًا لي، وكبر معي وصار صديقًا لي في وحشة المساءات الغامضة. أشعر بلذته المازوشية تارة، وبانقضاضه الوحشية تارة أخرى، وهو يمسك برقبتي ويحاول أن ينتزع شيئًا ما من داخل أحشائي.

حتى عندما كبرت ودخلت المدرسة وصار لي أصدقاء كثر، لم يفارقني ذلك الصوت المرعب، صوت الرجل المشلول ذي الجسد الأصفر النحيف الشبيه بهيكل عظمي، صوت يخترق حواسي ويعطلها، ويجعلني أسيرًا لحالة من الهلع الهستيري. (آووووه.. ووووه.. ييي... هه.. هه) كان ذلك الصوت بترددات مختلفة يمتزج معه الفحيح والهمس والضحك الخافت؛ يحاصرني بتشنجاته ورائحته العفنة، فأخر صريعًا فاقدًا للوعي ولا أنهض إلا في صباح اليوم التالي وقد أصابني الوهن وفقدت النطق لفترة قصيرة.

لم يكن ذلك حلمًا أو وهمًا، أذكر ذلك جيدًا في إحدى الليالي الشتائية العاصفة، عندما كنت وحيدًا في الغرفة مع دماي وألعابي، شعرت باهتزاز أرضية الغرفة من تحتي. بدأ السرير يلفظني ويحاول أن يسقطني أرضًا كثور هائج. فتحت النوافذ على مصراعيها بقوة خفية وتطايرت الستائر، ودخلت الظلال البيضاء التي تراقصت في وسط الغرفة وتجمعت على شكل عاصفة لولبية، وبدأت تقترب مني رويدًا.. رويدًا بصفيرها وهديرها المرعب. هربت فزعًا باكيًا إلى غرفة أمي شارحًا لها ما حدث معي وأنا أسترسل في الكلام والوصف بعينين دامعتين وشهيق متقطع.

هدأت أمي من روعي ومسَّدت شعري بيدها، أصابتني السكينة بعد أن جفت الدموع على وجنتيّ وأنا أستمع لصوت أمي الملائكي وهي تروي لي قصة من قصص خيال الأطفال، عن عازف المزمار الذي تطوع ليخلص البلدة من الجرذان مقابل مكافأة مادية، فكانت الجرذان تتبعه وهو يطلق الألحان من مزماره السحري إلى أن سقطت الجرذان كلها في أحد الأنهر، وعندما أتم مهمته نكث محافظ البلدة بوعده ولم يكافئ العازف، فقرر أن ينتقم العازف من أهل هذه البلدة جميعًا فعزف لحنًا ساحرًا عجيبًا تبعه على أثره كل أطفال البلدة وصعدوا إلى تلة انفتحت على عالم آخر وابتلعت كل الأطفال إلا طفلًا واحدًا كان أعرج لم يستطع اللحاق بالأطفال وعازف المزمار. كنت أفكر كثيرًا في مصير هؤلاء الأطفال وعالمهم، ومن هو يا ترى ذلك الطفل الذي لم يستطع اللحاق بالجمع؟ وهل عاش ليروي لنا هذه الحكاية؟

كنت نائمًا في فراش أمي، وأمي كانت قد غفت قبلي بعد أن أنهت لي الحكاية وتركتني أسيرًا لفكرة الطفل المعوق. كنت أجول ببصري في الغرفة المعتمة، والسكون الكئيب كان ينخر عظامي، فسمعت فجأة صوت خرير ماء متدفقًا وأحسست بشيء بلّل سريري، شيء لزج حاول ابتلاعي إلى الأسفل، نهضت منتفضًا وصارخًا وركزت نظري في الظلام على باب الخزانة المفتوح جزئيًا، فكان وجهًا مجدورًا تملؤه الدمامل والقيح وتغور عينيه في محجريهما؛ يحدق بي ويده الخضراء ذات الأظافر الطويلة تمسك بباب الخزانة. لم أتجرأ على مد يدي أو قدمي خارج السرير، ولا النوم على الجهة الأخرى ولا التنفس بصوت عالٍ أيضًا، فهو في كل مكان وعفونته تخطف الأصوات من الحناجر.

بعد مرور ربع قرن على حوادث الطفولة الكئيبة وتحديدًا في بدايات القرن الواحد والعشرين، الزمن الذي هجرت فيه الآلهة عوالمها المنقرضة وبدأت تتصارع مع البشر؛ انتقلت للعيش وحيدًا في إحدى القرى النائية عن المدينة. كانت حياتي تسير بشكل متسارع وممل. كنت قد هربت من خوفي أو هو الذي هرب مني لا أذكر تحديدًا متى وكيف؟ لكن العالم أيضًا كان يجري بسرعة جنونية نحو الهاوية، والحياة أصبحت ماراثونًا مرعبًا لا ربح فيه ولا خسارة.

انتقلت للسكن في قرية نائية تبعد عن المدينة عدة كيلومترات، وكانت الإشاعات والأخبار في حينها عن سكان تلك القرية بأنهم غامضون جدًا، وقسم منهم قد تعرض لاختطاف من كائنات فضائية وأجري له تبديل في الجينات والخلايا، وآخرون كانوا يعيشون مع الجن والشياطين، ويقيمون لهم حفلات من الرقص الدموي والعربدة الجنسية.

عندما كبرت وتثقفت قليلًا اختفت هواجسي ومخاوفي وسخرت من كوابيس طفولتي، التي بدأت تختفي من ذاكرتي وتغرق في طبقات مجهولة من النفس. ربما أدركت ماهية الأساطير وتأثيرها على الشعوب وما تخلفه من جرائم مشروعة في المجتمعات البدائية والفقيرة، وقد يحمل كل إنسان شيفرات في لاوعيه عن نشأة الخليقة وعن تاريخ الجنس البشري كاملًا ويتجلى له ذلك من خلال الرموز والصور التي تخلفها الأحلام والهذيانات. لا أنكر أن المعرفة حرّرتني من قيود كثيرة وساعدتني على التأمل وإعادة النظر في الأشياء والعالم من حولي، لكن ما رأيته وما سأراه لم تنقذني منه المعرفة ولا جميع العلوم. لست مجنونًا أو مختلًا لكن ذلك الشيء لم يكن حلمًا ولا وهمًا.

أعجبتني تلك القرية التي تقع في سهل تتوسطه عدة تلال وتبعد عنها غابة كثيفة من أشجار الصنوبر ونهر يتوهج بالمرايا والنجوم ليلًا، وأصوات بعيدة لقطعان الكلاب الضالة. اتخذت غرفة في طابق علوي من بيت مهجور. كان الطابق السفلي غير صالح للسكن. أشياء قديمة تعلوها الغبار ولوحات قديمة غطاها التراب، حيطان وسقوف مهترئة، وصالة فيها عدة كراسٍ قديمة للجلوس تتوسطها منضدة خشبية متآكلة عليها عدة كؤوس مملوءة بالغبار والتراب وبعض الكتب والأوراق المتناثرة.

استهوتني الغرفة في الطابق العلوي، كانت تبدو لشخص سكنها قبلي وكان مهتمًا بالجرائم والحوادث الغامضة وأخبار الفنانين والمشاهير، وقد اقتطع صفحات من مجلات مختلفة وألصقها على الحائط. كانت هناك أيضًا طاولة عليها زجاجة ويسكي فارغة وراديو قديم، وكتاب عن علم الرموز والمثلثات.

لم أكن آبهًا بأي شيء فقد كنت أنهض صباحًا وأبدأ بكتابة روايتي التي شارفت على الانتهاء منها. وفي الليل كان يعجبني المشي والتجوال سرًا حيث الغابة الكثيفة، أو التأمل بوجه السماء المزينة بالكواكب ومراقبة القمر المختبئ خلف التلال. وكانت عادتي بين فترة وأخرى أن أنزل إلى المدينة وأتبضع منها ما أحتاجه من شراب وطعام وكتب. وعند عودتي مساء كنت أرى بعض أهل القرية يحملون المشاعل والفوانيس ويتجهون صوب الغابة حيث النهر. لم تكن مشيتهم طبيعية بل كانت عرجاء ومترنحة وكانت تبدو على وجوههم الملامح الشاحبة الجامدة. كانوا دائمًا ينظرون إلى الأمام ولا يلتفتون يمينًا ولا شمالًا.

كنت أرى هؤلاء القوم كثيرًا في تجمعات المدن الصاخبة وفي الأحداث العالمية الكبرى، يمرون مسرعين وكأنهم يفتشون عن شيء ما ويختفون فجأة من الزحام من دون أن يلحظهم أحد.

أفقت ذات يوم في منتصف الليل على صوت ناقوس ممزوج بموسيقى غريبة، يتبعها صفير ناي له بحة حزينة وغامضة. نهضت لأتبين مصدر الموسيقى، كانت الموسيقى تأتي من السماء التي تلبدت بغيوم رمادية وكان أهل القرية قد خرجوا بمشاعلهم وفوانيسهم صوب النهر شاكرين.. مبتهلين، خرجوا أطفالًا ونساء وشيوخًا بملامحهم الجامدة ومشيتهم العرجاء المترنحة. استمرت هذه الموسيقى السماوية لمدة أسبوع واستمر أهل القرية في حجهم المقدس صوب النهر أفواجًا وجماعات، وكنت أنا أستمتع بتلك الطقوس من خلال النظر إليهم من نافذة غرفتي العلوية، وكان يثير اهتمامي شخص طويل القامة يرتدي معطفاً أسود وقبعة على رأسه يدفع عجوزًا مشلولًا بعربته كان هذان الاثنان متأخرين دائمًا عن الفوج، كانت تستهويني وتثيرني علاقتهما معًا، وتذكرني دائمًا بقصة عازف المزمار والطفل الأعرج في مدينة الجرذان.

ذات ليلة ماطرة من تلك الليالي لم أر أهل القرية يخرجون إلى حجهم المقدس، أطلت النظر من شرفة غرفتي كان الشخص الطويل ذو المعطف والعجوز المشلول وحدهما فقط، كان يدفع عربته ببطء شديد لم أعهده فيه من قبل، هبت ريح خفيفة باردة؛ جعلتني أتسمر في مكاني، كنت أحس أنه سيتوقف. بدأت شفتاي ترتعشان وقلبي يخفق خفوقًا مضطربًا وأطرافي لم تعد ملكًا لجسدي. لقد توقف فعلًا ونظر إليً أستطيع أن أتبين وجهه الآن كان بلا ملامح، بل كان بلا وجه أصلًا، فراغ معتم لا نهائي.

قبل أن أسدل ستار نافذتي بدأت عقارب الساعة القديمة بالدوران، وصرير الباب الخشبي بدأ يعلو تدريجيًا إلى أن انتزع أذنيّ من عظام رأسي، أصابع طويلة ومتشابكة كانت تنقر على كتفي نقرات قوية. التصق وجه مجدور ذو دمامل قبيحة بزجاج النافذة وانفجر وجهي فجأة. غرقت غرفتي في نهر من الدماء، كان الرجل الأسود يدفع عربتي فالشلل قد أصاب جميع جسدي هذه المرة، لم أعد قادرًا على تحريك فمي، ولم أعثر على صوتي المبحوح وسط هذا الركام من الصمت والعتمة. تدحرج رأسي على الأرض كان بلا وجه ولا ملامح وكانت صورتي الشاحبة تهرب من الكتاب القديم إلى الضباب البنفسجي. كائن أحدب له وجه مثلث تتوسطه عين واحدة تكلم بوضوح لكن بلا صوت ولا حركة:

لقد نسيت وجهك المتآكل في محطة الباص القديمة

كنت جثة متفحمة مبتورة الأطراف

قبل أربعين عامًا من زمنكم البشري

وقعت الحرب هنا.. وتناهش لحمك.. سكان العالم القديم والجديد..

لم يكن ذلك الشيء..

لم يكن شيئًا..

 

اقرأ/ي أيضًا:

سليم بركات: التنين

قوس المطر