31-أغسطس-2023
ما تفعله هذه المدينة هو ما فعلته الثورة في بواكيرها الأولى

(الترا صوت) ما تفعله السويداء هو ما فعلته الثورة في بواكيرها الأولى

يستعيد الناس فضاءاتهم المسلوبة مع الثورات، فبعد أن تُثقلها الأنظمة بالصور والرايات والشعارات، تغدو تعبيرًا عن التطلعات والغايات التي يحملها الثوّار، ومنصة للحوار العمومي، بدلًا من الصور والتماثيل والأقوال، وحتى الذوق الرديء لأولئك الرابضين على صدور بلادهم.

حدث ذلك في ميدان التحرير في قاهرة 2011، وفي بغداد 2019، وها هي السويداء تفعله اليوم رغم إدراكها العميق لخطورة ذلك. تقول الثورات إنّ استعادة المدن وفضاءاتها المختلفة من ميادين وشوارع، وحتى من جدران؛ تأخذ سكّانها المغيّبين قسرًا من المشهد إلى إعلان حضورهم في الفضاء العام، بعد استحواذهم عليه، وتحريره من هيمنة السلطة وذوقها الخشبي بصريًّا ولغويًّا.

ولأن ما يحدث في جنوب سوريا يأتي من بلد فعل نظامه المستحيل لصنع الإنسان الخانع والمطيع، المدجّن منذ الطفولة عبر "طلائع البعث"، وفي المراهقة عبر "شبيبة الثورة"، وفي بقية العمر عبر الحزب الواحد، والإعلام الواحد، والفساد والنفاق والذل الموحَّد؛ فإن المدينة الجنوبية تقوم قومتَها لتعيد تعريف كل ذلك. تحرر الفضاء البصري من عقود من البطش، وتعيد تعريف الشجاعة حين تشعل انتفاضة في بلد يعرف أهله جيدًا كم هي باهظة وقاسية ضريبة الثورات والانتفاضات فيه. لكن السويداء تقول: ليست الشجاعة أن تتحدّى وأنت تعرف، بل أن تعرف وأنت تتحدّى.

مع السويداء سيضعف حضور ثنائيات مثل أكثرية وأقلية أو داخل وخارج أو مناطق نظام ومعارضة، لأنّ ما تفعله هذه المدينة هو ما فعلته الثورة في بواكيرها الأولى: تنادي برحيل النظام، وتزيل صور الطاغية، وتتطلع إلى العدل والكرامة

أدخلت أحداث المدينة الجنوبية سوريا في مرحلة جديدة، كان لا بد من وصولها إليها في النهاية، لا سيما بعد أكثر من عقد كاملة من الدماء والتمزق. وهي مرحلة لا تقتصر على التمرد السياسي على نظام منتهي الصلاحية أخلاقيًا وسياسيًا وإداريًّا وحسب، بل في العمل على إنهاء الانقسام النفسي واللغوي والجغرافي في القاموس السوري، فمع السويداء سيضعف حضور ثنائيات مثل أكثرية وأقلية أو داخل وخارج أو مناطق نظام ومعارضة، لأنّ ما تفعله هذه المدينة هو ما فعلته الثورة في بواكيرها الأولى: تنادي برحيل النظام، وتزيل صور الطاغية، وتتطلع إلى العدل والكرامة.

ما كان لهذا أن يحدث لولا 2011، لكنّ الأمل في هذه المرحلة أن تدفع هذه الأحداث إلى عودة سوريا إلى الحلّ السياسي، على أساس القرار الدولي 2254 القائل بالانتقال الديمقراطي ورحيل النظام، بدلًا من العبثية العربية في عملية إعادة تأهيله التي تغاضت عن الجريمة والدم والخراب.

ما لا ينكره السامعون الآن أنّ من يتحدثون من السويداء بارعون في الكلام، لديهم بلاغة تليق بخطباء المحافل الكبرى. ومن يعرف المدينة وأهلها يعرف جيدًا كيف أنّ كلام الأطفال والفتية فارق، فما بالك بالنساء والرجال. وكأن متكلمات ومتكلمي ذلك الجنوب، في يومياتهم العادية، خرجوا من إحدى المعاجم، أو تأبطوا كتابًا.

الكلام هوية الجنوب السوريّ. الكلام صوته. الكلام شخصيته وكيانه ومعناه. الكلام أرضه وسماؤه.

واحدة من الروايات عن المدينة وريفها اسمها "أرض الكلام" لممدوح عزام، وفيها تتوالد القصص وتتناسل، خلال سنةٍ من أسوأ سنوات الجدب التي مرّت على تلك البقاع هي سنة 1959 – 1960. وقتها يبدأ الناس بالسّفر، لكنّ هذه الأرض تطلق وراءهم ثلاثة رواةٍ يعملون على سد الفجوات في معلومات السارد العام للرواية، وهؤلاء الرواة يظهرون على هذا الترتيب: معلم لديه دفتر للتدوين يسميه "كتاب السفر"، وابنه الذي يكتب القصص القصيرة الحلمية التي تُرينا ما لا نرى، أو لا يمكن أن يراه غير الأطفال، ومصوّر يجعل كاميراته تروي الوحشة والموت.

العقل والوجدان اللذين مثّلهما المعلم، والحلم والخيال اللذين انطلق منهما وبهما ابنه الكاتب الصغير، وألبومات الصور التي بدت وكأنّها كلام المكان نفسه، كلها اجتمعت معًا لتقول إن في ذلك الجنوب روحًا لا يُسكتها حتى الجدب والعطش، لأنها ستظل تتكلّم، وستخترع لذلك الكلام ألف طريقة وطريقة.

ما نشهده اليوم ليس سوى بعض كلام أرض الكلام.