31-أغسطس-2023
 احتجاجات السويداء

(الترا صوت) احتجاجات السويداء

دخلت احتجاجات السويداء، والانتقادات الموجهة لرأس النظام وعائلته في الساحل السوري -الأكثر حذرًا لطبيعة الظروف- على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم الثاني عشر على التواصل، بتصاعدٍ وحدّة وتيرة أُسيّين منذ اليوم الأول.

ورغم أن الاحتجاجات في السويداء ليست بالجديدة، إلا أن رقعة اتساعها وتنظيمها، والاتفاق بين المرجعيات الدينية الثلاثة التي تقاسمت الأدوار في الماضي بين معارضة، حياد وموالاة، على ضرورة وضع حدٍّ للنظام الحاكم تعدُّ سابقةً أحيت الأمل بإحداث تغيير فشلت به الثورة التي انطلقت عام 2011.

تختلف الأسباب التي أدّت لاندلاع هذا النوع من الاحتجاجات، من السياسات "الرئاسية" العقيمة والمرتهنة للخارج، إلى تلك الحكومية التي أثبتت فشلها مرارًا على اختلاف مؤدّيها إلى تقويض حرية التعبير وانتهاك ما يُعرف بـ"السيادة الوطنية" وحتى تدهور الأوضاع المعيشية. إلا أن اللهبةَ التي أشعلت فتيل الحراك الأخير فهي قراران مزدوجان؛ الأول صدر عن الحكومة (الفاسدة) يقتضي رفع أسعار المحرقات بنسبة 200 % تقريبًا، والثاني صدر عن الأسد (الطيب المُحاط بالفاسدين) يقتضي رفع أجور العاملين في الدولة بنسبة 100 %، ما سبّب ارتدادًا مباشرًا في اليوم التالي وتضاعف تكاليف كل شيء عن تكلفته الأصلية التي لم يستطع معظم الشعب تغطيتها على أية حال قبل الارتفاع.

قراران أشعلا فتيل الحراك الأخير في الجنوب السوري، الأول رفع أسعار المحرقات بنسبة 200 % تقريبًا، والثاني رفع أجور العاملين في الدولة بنسبة 100 %

بالطبع، ظهرت الأصوات الداعمة لحراك السويداء، إذ خرجت المظاهرات التي تشدّ على أيدي متظاهري الجنوب السوري في درعا وعفرين وحتى إدلب، بعضها شهد رفع علم "الحدود الخمسة" الخاص بالأقلية الدرزية، والذي ساد في مظاهرات السويداء، من قبل أُناسٍ لا ينتمون إلى تلك الأقلية. لكن أصواتًا أخرى برزت، تُزاود على حراك السويداء وتنتقص منه واصفةً إياه بـ"ثورة الجياع"؛ لأن نقطة انطلاقه جاءت من قرارات اقتصادية ضربت المُقدّرات المعيشية، وأنها ستنطفئ حالما "تُشبَع" بطون أولئك المتظاهرين، وشتّان بينها وبين "ثورة الكرامة" التي خرجت عام 2011، والتي لم يطفئها جوعٌ ولا خوفٌ ولا براميل متفجرة، بحسب هؤلاء.

بدايةً، خطابٌ من هذا النوع ينسف كل ما وقف لأجله "ثائر الكرامة". ألم ينادي هؤلاء بسوريا موحّدة في وجه طاغيتها منذ اليوم الأول قبل أن "ينحرف" مسار الثورة وتؤخذ إلى أماكن أفضت إلى ما أفضت إليه اليوم؟ أوليس انضمام المحافظة التي نأت بنفسها عن حمّام الدم، إلى جانب المناطق التي تشكّل حاضنة شعبية للنظام هي ما يلزم لإعادة الثورة إلى مسارها وعكس الاستقطاب الذي حدث، وإن كان من المبكر قليلًا الحديث عن هذه اليوتوبيا؟ والأهم من ذلك، ألا ينطوي هذا على مصادرةً لـ"حرية" شرائح من الشعب بالتظاهر في توقيتها وأدواتها التي تراها لتحقيق مطالبها، خصوصًا بعدما رأت الفشل الذريع لأدوات شرائح أخرى؟

يفترض هذا الخطاب أن "الجوع" و"الكرامة" شأنان منفصلان، فإما أن يكون الشخص "كريمًا" وإما "جائعًا"؛ فيما تنص ألف باء علم الاجتماع على أن سد الجوع إحدى ركائز العيش الكريم؛ الأمر الذي توضحه، بأبسط الكلمات الممكنة، المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

يطرح هذا الخطاب سؤالين جوهريين؛ أولهما هل كانت البطون ممتلئة والعروق مبلّة بما فيه الكفاية لتكون "الكرامة" حقًا هي المحرك الوحيد لثورة عام 2011؟ تشير الأبحاث إلى أن معدل البطالة في سوريا بلغ 24.4 % عام 2010، بينما بلغ معدل الفقر الإجمالي في العام نفسه 34.3 %، في حين بلغ معدل الفقر في المناطق الريفية حوالي 62 %.

ووفقًا للبنك الدولي، كان أكثر من 20 % من السوريين يعيشون في فقر قبل عام 2011. وكان معدل الفقر يتزايد بشكل مطرد منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدفق اللاجئين، وانخفاض فرص التوظيف في القطاع الخاص وتدني الأجور في شقيقه العام.

وعلى وجه التحديد، كانت أفقر منطقة في سوريا قبل عام 2011 هي المنطقة الشمالية الشرقية، وتحديدًا محافظة الرقة، إذ اتسمت هذه المنطقة بانخفاض مستويات التنمية والفقر وانعدام الفرص الاقتصادية. وبالحديث عن الشمال الشرقي، فإن واحدًا من أبرز الأسباب التي دعت إلى الاحتجاج عام 2011، هو موجات الجفاف التي شهدتها المنطقة، التي تعد سلة سوريا الغذائية، بين عامي 2007 و2010، والتي تعد الأسوأ في تاريخ البلاد الحديث، والتي تسببت بشبه انهيارٍ لقطاع الزراعة حينها.

أليس إجحافًا لو خرج أحدٌ ما حينها متجاهلًا جميع المحفزات الشرعية التي أدت إلى الانتفاض، كالفساد والقمع ونسف الديمقراطية واضطهاد الأقليات وغيرها من دوافع احتجاجٍ مُحقّة وأطلق وصف "ثورة العِطاش" مثلًا؟

ساوت ثورة يناير المصرية عام 2011 الخبز مع أسمى المطالب الإنسانية بصريح العبارة، واتخذت من عبارة "عيش (خبز)، حرية، عدالة اجتماعية" شعارًا لها

السؤال الجوهري الآخر الذي يجب طرحه في ضوء ما يجري حاليًا من تأطير وصبّ قوالب ثورية مضادة للكسر، ألم يكن الجوع قضية سياسيةً بحتةً منذ فجر التاريخ؟ يعتمد الحصول على الغذاء على الإمدادات الغذائية، والقدرة على تحديد الحق في الحصول على الغذاء، والإنتاج، ومعاملات السوق، والسلطة السياسية الأسرية. ينشأ الجوع من فشل الدولة في توفير الاستحقاقات الإنسانية الذي يحمل خصوصية مجتمعية بدلًا من سمات أُسَريّة. وبشكل عام، يقع عاتق توفير جزءًا كبيرًا من تلك الاستحقاقات من قبل الدولة من خلال المساعدات، والدعم، والتوظيف، والتوزيع العام للسلع، والاقتصاد. وتعتمد قدرة الدولة النامية (سوريا مثالًا)، التي لا تستطيع إنتاج وتوزيع الاستحقاقات بمفردها، على التأثيرات السياسية الخارجية والداخلية، وعليه فإن رفع مستوى استحقاق الأسرة أو الفرد يتطلب اتخاذ إجراءات ذات طبيعة سياسية أولًا وأخيرًا.

احتلّت "سياسات الجوع" حيزًا رئيسيًا من أدبيات علم الاجتماع منذ القرن الثامن عشر، إلى أن وصف كارل ماركس النظام الغذائي نفسه، أيًا كان، على أنه إجماعٌ سياسي في المقام الأول. وليس خفيًا أن عددًا من أقدس الثورات، التي صارت مرجعيات أكاديمية في كيفية قلب الأمر الواقع، كان الجوع محركها الأساسي، والوحيد في بعض الأحيان، من حرب الطحين التي سبقت الثورة الفرنسية إلى ثورة البلاشفة في روسيا مطلع القرن العشرين وليس انتهاءً بالثورة الأكبر حتى الآن في القرن الواحد والعشرين، ثورة يناير في مصر 2011 التي ساوت الخبز مع أسمى المطالب الإنسانية بصريح العبارة واتخذت من "عيش (خبز)، حرية، عدالة اجتماعية" شعارًا لها.

ليس أيًّا مما سبق مهم أو ذا صلة، ما يهم الآن هو ماذا لو نجح "الجياع" في تنفيذ مطالبهم، والتي تتقاطع مع مطالب "الكرماء" التي عجزوا عن تحقيقها؟ هل سنشهد رفضًا للحرية المُنتزعة بالأيادي والأظافر والأسنان، على اعتبار أنها لا تتواءم مع الحرية المأخوذة بالشوكة والسكين؟ أم أننا، حالنا حال من خرجنا ضدّه، يجب علينا أولًا تعريف الحرية بما يرسّخ ثوابتنا الوطنية؟