02-فبراير-2021

عمل رقمي لـ تمام عزام/ سوريا

هناك العديد من الجدالات الثنائية التي تأتي لتَكون جزءًا لا يتجزّأ من حالة جدل تجري في الأوساط العامة، ويكون مكانها الشارع العام أو المساحات الافتراضية وعوالم السوشيال ميديا، وهذا ما يُمكنني أن أصفَ به ذلك الحوار الجدلي الذي دار بيني وبين تلك الصديقة، فعلى هامش الجدل الذي أثيرَ قبل مدة حول بوستر المسلسل السوري "شارع شيكاغو" والذي ظهرت فيه الممثلة سلاف فواخرجي وكأنّها في أطوار الدخول في مشروع قُبلة مع الممثل مهيار خضور، حيثُ لاقى البوستر حينها حالة استنكار واسعة من فِئات مجتمعية عديدة تحت دعاوي المحافظة، واعتبار أنّ البوستر فيه ما يخدش حياء الشارع العام ويَتعارض مع عادات وتقاليد الثقافة العربية والإسلامية، التي اعتادت طبيعة المسلسلات السورية أن تقوم بمراعاتها في إنتاجاتها الدرامية طيلة عقود عديدة.

الموسوعة البريطانية تُعرّف القُبلة بأنّها "ضمّ الشفاه على الشفاه أو على الخدّ أو اليدّ أو القدم لشخص آخر كدلالة تعاطف أو تبجيل أو انجذاب جنسي"

أدخلتني تلك الصديقة في حوار جدلي حول موضوع البوستر الأساسي وهو "القبلة"، لم تكن مناقشتي معها حول مدى أحقية الجهات المعترضة على البوستر في تقديم لوائح اعتراضها، ولم تكن كذلك حول المسلسل ومضامينه ومشهدياته التي بدا أنّ كثيرًا منها تأتي بما يُخالف ما اعتيدَ على تقديمه في مسلسلات الدراما السورية تحديدًا، كان حواري مع تلك الصديقة حول القبلة في رمزيتها ودلالتها العامة، وإذا ما كانت لها خصوصية حميمية في الممارسة الجنسية التي تحدث بين شخصين، أم أنّها تحدث كمقدمة للفعل الجنسي بميكانيكية كاملة دون أن تتضمن أي دلالات رمزية خاصة حول مشاعر الشخصين اللذيْن يقومان بالممارسة الجنسية.

اقرأ/ي أيضًا: سجال حول مشروع القُبلَة في ملصق "شارع شيكاغو"

وفي طور مناقشتي مع تلك الصديقة استحضرتُ مشهديتان من فيلمين كنتُ قد شاهدتهما وحضرت فيهما القبلة في صفتها ودلالتها الرمزية كفعل عشقي خاص ومنفصل عن الممارسة الجنسية بشكل عام، يأتي للتدليل على مشاعر العشق والحبّ التي يُكنّها العاشقان والحبيبان لبعضهما البعض، المشهدية الأولى كانت مشهدية من الفيلم الأمريكي "Pretty Woman (1990)" التي تظهر فيه بائعة الهوى فيفيان وارد (جوليا روبرتس) وهي تُقدّم خدماتها الجنسية لرجل الأعمال إدوارد لويس (ريتشارد غير) وتُخبره بأنّ الممارسة الجنسية معه هي ممارسة مفتوحة دون قيد أو شرط باستثناء القُبلة، فالقبلة في منطق فيفيان هي الشيء الوحيد الذي لا يُمكن أن تَفعله مع الرجال التي تُقدّم إليهم خدماتها الجنسية، فهي فِعل حميمي وخاص لا تقوم به إلا مع الرجل الذي تقع في حبّه. أما المشهدية الثانية فكانت مشهدية من الفيلم البلجيكي الفرنسي "Rust and Bone (2012)"، وهي مشهدية ستيفاني (ماريون كوتيار) مدربة الدلافين التي فقَدت ساقيها في حادثة أثناء قيامها بالتدريب، ثمّ وفي طور محاولتها استعادتها إحساسها بقدرتها الجنسية تدخل في شكل من أشكال الصداقة الجنسية مع صديقها ألان فان فيرش (ماتياس شونارتس)، لكنّها تشترط عليه كذلك أن تكون الممارسة الجنسية التي تتمّ بينهما دون قُبلة وبلا فعل التقبيل.

وإنّ هاتين المشهديتين دفعتاني للتوجّه نحو البحث في معنى القبلة وفي دلالاتها الرمزية وفي أشكال موضعتها من حيث التحريم والإباحة في الثقافة العربية والإسلامية.

وضمن السياق السابق، فإنّ حسين علي الجبوري يُورد في كتابه "القبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحبّ والدين والسياسة" بأنّ الموسوعة البريطانية تُعرّف القُبلة بأنّها "ضمّ الشفاه على الشفاه أو على الخدّ أو اليدّ أو القدم لشخص آخر كدلالة تعاطف أو تبجيل أو انجذاب جنسي".

إباحة القُبلة في الثقافة العربية والإسلامية يدلّل عليه ورودها في العديد من كُتب الحبّ التي تأتي لتُظهرها كفعل عشقي منسجم مع الطبيعة البدوية العربية

وفيما يتعلّق بالقبلة على الشفاه تحديدًا يورد الجبوري بأنّ أشكال موضعة هذا النوع من القُبل في الثقافة العربية الإسلامية هي في غالبيتها تأتي بما يُحلّله ويُبيحه عبر فتاوى دينية أو شِعرية أو فلسفية.

اقرأ/ي أيضًا: 10 حقائق طريفة عن التقبيل

وإنّ إباحة القُبلة في الثقافة العربية والإسلامية يدلّل عليه ورودها في العديد من كُتب الحبّ التي تأتي لتُظهرها كفعل عشقي منسجم مع الطبيعة البدوية العربية، فقد ورد في كتبِ الحبّ –مثلًا- أنّ أعرابيًا سُئِل: أيسرك أن تظفر بمحبوبتك؟ قال: نعم. قيل: فما تصنع بها؟ قال: أُطيع الحبّ في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها.

والواضح هنا أنّ الفلسفة التي ينطلق منها مفهوم القُبلة يأتي أساسًا من مناخ البداوة الذي هو عالم الطبيعة الحرة. وأنّ هذا الأعرابي بإباحته القبلة لنفسه وكأنّه أراد أن ينحى منحىً وسطيًا بين طبيعته الإنسانية وما يُدركه من النواهي الدينية، وذلك ما جعله يستجيب لنوازع طبيعته التي تُمليها عليه ضرورة الحالة العشقية التي يمرّ بها دون أن يَسمح لتلك النوازع أن تقوده لارتكاب ما يؤمن بأنه محرمٌ عليه دينيًا.

وهناك العديد من الأقوال الأخرى التي انبثقت من قلب طبيعة البداوة العربية وفَصَلت بين القُبلة وما شابهها من التعاطفات وبين الممارسة الجنسية الصريحة، حيثُ أنّ تلك الأقوال اعتبرت أنّ القُبلة تجيء من أجل إغذاء الروح أما الحاجة الجنسية تجيء من أجل طلب الولد. ويظهر ذلك في قول أعرابي آخر سُئِل: ما ينال أحدكم من عشقيته إذا خلا بها؟ قال: القُبل وما شاكلها. قيل: فهل يتطاولان إلى الجماع؟ قال: بأبي وأمي هذا ليس بعاشق، هذا طالب ولد.

وتظهر إباحتها كذلك عند بعض الفقهاء الذين أوجبوها على من وصل به الحبّ إلى درجة يُخشى عليه فيها من الموت، حيثُ أنّهم فرضوها في تلك الحالة لما في منعها من سبب قد يؤدي بالمحبّ العاشق إلى قتل نفسه. فأولئك الفقهاء قاموا بتقسيم مقامات العاشق إلى ثلاث وأخبروا أنّ العاشق إذا كان في مقام العشق الأول فإنّه يتوجب عليه كتمان عشقه، أما إذا زاد به الحال وانتقل إلى مقام العشق الثاني فلا بأس بإخبار محبوبه وإعلامه بحبّه إذا كان هذا الإعلان يُخفف عليه لوعة حبّه. أما إذا وصل الأمر بالعاشق إلى المقام الثالث وهو مقام قد يؤدي به إلى إهلاك نفسه فإنّ القبلة تجوز له

بحسب الشريعة فإنّ الإنسان إذا وقع بين مرضين، فإنه يستوجب عليه مداواة الأخطر ولا خطر أعظم من قتل النفس

في تلك الحالة كوسيلة للاستشفاء وذلك لأنّ تركها قد يؤدي إلى هلاك النفس، وهو أكبر الأخطار، وبحسب الشريعة فإنّ الإنسان إذا وقع بين مرضين، فإنه يستوجب عليه مداواة الأخطر ولا خطر أعظم من قتل النفس، وقد أوجب الفقهاء في تلك الحالة على المعشوق والمحبوب مطاوعة عاشقه ومحبّه إذا تأكّد من أن تمنّعه قد يؤدي به إلى الهلاك.

اقرأ/ي أيضًا: هل تؤدي القبلة في تونس إلى السجن؟

وإنّه يرد في سير المحبين كذلك أنّهم كانوا في حال تعذَّر عليهم الاستشفاء بالقبلة يستعيضون عنها بتقبيل ما مسّ فمّ المحبوب، فالعاشق المحبّ –مثلًا- كان يستعيض عن القبلة في حال استحالة نيلها من محبوبته بتقبيل ما مسّ فمّ محبوبته، وذلك لأنّ الأشياء التي تمسّ فمّ المعشوق لها التأثير الأكبر على العاشق، وبحسب الجوبري فإنّ "الفمّ وتوابعه من الشفاه والثنايا واللسان والريق مَنبع الشهوة ومصدر اللذة، فكلّ ما يصير من ظرف الفمّ يكتسب لذة مذاقه ويتشبّع بنكهة أنفاسه ولذلك يكون مدعاة لإغراء المحبّ بوضعه في فمه لاستجلاب متعة القبلة عندما يعزّ تقبيل المحبوب بذاته".

وتبعًا لذلك، فقد اعتاد العشاق أن يقوم أحدهما بإهداء الآخر لبان "المصطكي"، حيثُ كان أحدهما يَعلكه ويُرسله إلى الآخر وبه بلل من ريقه، وكان المرسَل إليه يُبادر بوضعه وهو ندي في فمه ويقوم بمضغه ليشعر بنشوة التقبيل.

وإباحة القُبلة في الثقافة العربية والإسلامية تظهر –كذلك- في كيفية ورودها في الأشعار العربية أو عند العديد من الفلاسفة العرب، ففي الأشعار العربية، يظهر الشعراء العشاق كمن وجدوا حلًا لإشكالية حبّهم الذي يُحرّمه المبدأ العام للإسلام، حيثُ تأتي أشعارهم لتُبيّن أنّهم يتمسكون بالتفاسير التي ترى في الحبّ حتمية قدرية لا مفرّ منها ومكتوبة عليهم قبل خلقهم، فهم في مشاعر عشقهم للمحبوب مجبرون لا مخيرون.

ومن ذلك قول قيس ليلى:

تعلّق روحي روحها قبل خلقنا/ ومن بعد أن كنا نطافًا وفي المهد

ومن ذلك أيضًا قول جميل بثينة:

لقد لامني فيها أخٌ ذو قرابة/ حبيبٌ إليه في ملامته رشدي

فقلتُ له فيما قضى الله ما ترى/ عليّ وهل فيما قضى الله من ردّ؟

أما الفلاسفة العرب فقد تعرّض العديد منهم للقبلة داخل إطار الوجود الذي يقوم أساسًا على مبدأ التعاشق، ومنهم الفيلسوف الصدر الشرازي الذي يُورد ويقول: "فالعشقُ والشوقُ سبب وجود الموجودات على كمالاتها الممكنة لها، وسبب دوامها، ولولا العشق والشوق ما أمكن حدوث حادث للعالم الجسماني".

إذا كان الحبّ هو حبل المودة الأثيري الذي يرتبط فيه العاشقان معًا، فإنّ المعانقة والتقبيل هما حبليْ المودة الحسيين اللذين يودّ كلّ واحد من العاشقين أن يناله من معشوقه ومحبوبه

وإنّ الشرازي يقصد بقوله هذا أنّ الروابط العشقية هي الأساس في تحقيق الانسجام الكوني، فتلك الروابط هي التي تشدّ أجزاء وعناصر الكون إلى بعضها البعض والتي لولاها لانفرط عقده المنتظم البديع.

اقرأ/ي أيضًا: 5 دروس عن الحب من أفلام وودي آلن

ويُمكن القول بأنّ الشرازي وغيره من الفلاسفة العرب الذين نظروا إلى القبلة نظرة استحسان دون استقباح أو استنكار أدركوا بأنّ العاشقيْن هما أكثر الناس حاجة للارتباط فيما بينهما، وبالانشداد إلى بعضهما البعض بحبال المودة الأثيرية والحسية معًا، ومن هنا وإذا كان الحبّ هو حبل المودة الأثيري الذي يرتبط فيه العاشقان معًا، فإنّ المعانقة والتقبيل هما حبليْ المودة الحسيين اللذين يودّ كلّ واحد من العاشقين أن يناله من معشوقه ومحبوبه.

أخيرًا، فإنّ تعدّد الفتاوى الدينية والشعرية والفلسفية التي وردت في الثقافة العربية والإسلامية وجاءت  بما يُبيح القُبلة ويستحسنها كوسيلة استشفاء لعاشقيْن يذوبان ويتعذّبان من شدة الحبّ ولوعته لهو الدليل الأكبر على أنّ هناك إدراك ما في هذه الثقافة بأنّ ما تحمله القُبلة من دلالات عِشقية هو أكبر كثيرًا مما تتضمنه من دلالات جنسية وشهوانية، فهيَ بوقوعها بين العاشقيْن على الشفاه إنّما تأتي بمعنى القبول والتساوي، فالقبلة التي يطبعها المحبّ على فمّ محبوبه تجيء كطلب يُقدّمه المحبّ ويحتاج أن ينال قبولًا تامًا من المحبوب، فهيَ الفعل الذي يتساوى فيه المحبّ مع محبوبه الذي يصبح هو الآخر بدوره محبًّا.

إنّ القُبلة هي ذلك الفعل الذي تَم تغييبه اليوم عن مشهديات ما يُسمى "السينما النظيفة"؛ تلك السينما التي تَنسى ما تحمله من دلالة رمزية تشي بأنّها علامة مميزة من علامات الشعور العشقي لا الفعل الجنسي، ذلك الشعور الذي اختزله عبد الحليم حافظ عندما غنى وقال: "لسا شفايفي شايلة سلامك شايلة أمارة حبّك ليا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

درجات الحب عند العرب

6 محاورات عند الفلاسفة الإغريق في مديح الحب