20-يونيو-2021

رسم من مخطوطة لكتاب كليلة ودمنة (Getty)

على حافة جبل منزوٍ شرق المتوسط تجتمع بضع عنزات جاءت كل واحدة من جبل، يترأسهن تيس بقرنين ضخمين ويحيط به لحمايته جديان أصغر قليلًا. موضوع الاجتماع كان طبعًا مناقشة نظرية داروين وتأثيرها على النوع الماعزي بكامله، وكانت بعض المجتمعات الماعزية قد سمعت نتفًا من بعض متنوريها تتضمن كلمات مثل نشوء وترقٍّ وأصول وأنواع واصطفاء وبقاء وأصلح وتكيّف.

ثمة نشطاء يتعاملون مع مفهوم العقد الاجتماعي كما تتعامل البامياء مع الاصطفاء الطبيعي. وحين يكشف "مناضلون" وهم في قلب المعركة عن خطّتهم للنصر فهم يبقبقون كالدجاج

امتدّ الاجتماع لبعض الوقت، وطرحت فيه أفكار من خارج الصندوق، وتخلّلته استراحة مبهجة احتوت على أوراق وبراعم التوت وحوضًا وافرًا من الماء الرقراق. وفي نهاية الاجتماع توافق مندوبو/ات التلال جميعًا أن الماعز بحاجة لصياغة اصطفاء طبيعي جديد، يحل محل الاصطفاء القديم الذي لم يحقق طموح النوع الماعزي بترك الخيار لبعض العنزات بحلق لحاهن والعيش خارج القطيع، وتخفيف رائحة التيوس في موسم التزاوج، والقدرة على القفز لبضعة أمتار إضافية بهدف الوصول لأعلى الشجرة التي هناك.

اقرأ/ي أيضًا: نركض لنبقى في أمكنتنا

على أطراف السهل المتداخل مع جبل الاجتماع الماعزي، مالت بضع شتلات من البامياء نحو بعضها، وانصتت جيدًا لأحد أذكى القرون في الحقل وهو يترجم الكلمات التي نقلتها الريح للتو من اللغة الماعزية إلى اللغة الباميائية، وبعد نقاش أقصر بكثير توافقت جميع الشتلات على أنها هي أيضًا تريد صوغ اصطفاءٍ طبيعي جديد، يجعل عمرها أطول وبذورها داخل كل قرن أكثر، والأهم أن معظم الشتلات تريد التحرر من قضية الجذور السخيفة هذه، لتستطيع الانتقال ليلًا لجوار شتلة أخرى، لأنها تريد جعل عملية تكاثرها أكثر بهجة. 

بعد جبلين أو ثلاثة باتجاه الشمال تقع مدينة، وفي إحدى ضواحيها، كان هناك اجتماع ثالث، حظي بتنظيم أفضل، وتم اختيار المشاركين فيه بطريقة ديموقراطية، فجرت انتخابات شملت الـ 15 مليار دجاجة الموجودة على الكوكب الآن، وأسفرت عن اختيار خمس عشرة مندوبة اجتمعن في قن حجري فاخر لمناقشة قضية مصيرية لم تعد قابلة للتأجيل. 

صرخت الدجاجات كثيرًا. احتد النقاش. وقفت إحداهن وخبطت بمنقارها على صحن الذرة فأوقعته، ثم قالت بشكل حاسم: بق بق بقيييق بق بقيق. وكانت تقصد: أرجوكم تحلّوا ببعض الواقعية، ما هي الأدوات التي نملكها؟ بقبقت واحدة أخرى بما معناه: لنعتمد الطريقة التدريجية، ونجعل مطلبنا في هذه المرحلة التوقف عن قلينا بالزيت ثم ننتقل لمرحلة الفرن والفحم. لم يردّ عليهما أحد، وعادت إلى بقبقاتها السابقة، التي حمّلهم إياها من انتخبوها. وأصرّت على التعامل معها كأمانة يقتضيها واجب الإخلاص لبقبقات الجماهير، ثم وقبل الغروب بقليل وصلت لصيغة واضحة وصريحة، صاغتها بشكل بيان ختامي جريء وقطعي، جاء في بعض فقراته (وفق الترجمة العربية الرسمية): لقد بات واضحًا لجميع الأنواع أن عدونا الحيوي الرئيسي هو الجنس البشري، فهو من يذبحنا بمجرد بلوغنا عمر ستة أسابيع، ويأكل البيض الذي نخطط لجعله أبناءنا، ونطالب النوع البشري بتنظيم حفل انتحار جماعي، وإطلاق النار على أنفسهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم وفقأ عيونهم، ونطالب الأنواع الحرة في العالم أن تساند نضالنا العادل وتدعم عملية تفاوضية تفضي إلى فناء النوع البشري كي ينعم نوعنا بالسلام. 

ولا مانع مرحليًا ـ ولأسباب تكتيكية ـ من التحالف مع أعدائنا الحيويين السابقين لا سيما الثعالب وبنات آوى وأبناء عمومتهم، لحين انتهاء معركتنا المصيرية. 

من وصل في القراءة لهذه الجملة سيكون قد تواطأ معي على قبول هذه الحكايات، وربما يضحك بسبب الفهم القاصر لنظرية داروين لدى الماعز والبامياء، والمطلبيات الواهمة لدى الدجاج، مع كامل الاحترام لعدالة قضيته وفداحة التهديد الوجودي الذي يتعرض له. 

بشكل أو بآخر، تقول كل الكائنات لبعضها طيلة الوقت: أنت لذيذ، وأنا أحبك، وامتلك هذه الأنياب الجميلة لأجلك، وهبني الله إياها لأنهشك بإتقان

لا أريد أن أكون متثاقفًا أو متعاليًا، ولكني لا أرى في معظم الخطاب السياسي في منطقتنا خروجًا عن هذه الحكايات الثلاث، فالدارونية جاءت كمحاولة لتفسير خمسة مليارات سنة من تطور الحياة، وليست وصفة لصناعتها (إذا تغاضينا عن المحاولات الضئيلة الحالية للتدخل قليلًا بهذا الشأن والتي يقوم بها أحد الأنواع في مختبرات قصية، بعد أن تطور بشكلٍ كافٍ ليتجرأ على ذلك)، ومثلها أيضًا نظرية العقد الاجتماعي التي جاءت كمحاولة لتفسير 12 ألف سنة من الاجتماع البشري. لذلك فحين يصرخ سياسيون (بل وبينهم أساتذة جامعيون): نريد صياغة عقد اجتماعي جديد لسوريا، وفي الجبال المجاورة يصرخ أيضًا مثقفون: نريد واحدًا أيضًا في لبنان. ونحن في العراق نريد عقدًا أيضًا. و"وحنّا بَعد نَبي عقد يديد". 

اقرأ/ي أيضًا: العثور على سوري في سوريا

حين يقولون ذلك فهم يتعاملون مع مفهوم العقد الاجتماعي كما تتعامل البامياء مع الاصطفاء الطبيعي. وحين يكشف "مناضلون" وهم في قلب المعركة عن خطّتهم للنصر، فهم يبقبقون: نطالب النظام السوري بتفكيك الأجهزة الأمنية، نطالب بتسليم سلاح حزب الله، حلّ الحشد الشعبي، انسحاب اسرائيل حتى حدود الخامس من حزيران، وقف الهيمنة الأمريكية على منابع النفط…. 

لست مؤهلًا لبناء خطاب سياسي لا باللغة الماعزية ولا الباميائية ولا الدجاجية، ولكنّي أعرف أبسط ثلاث جمل تلخّص السياسة: 

ـ العقد الاجتماعي محصّلة ملايين الأشياء (أحدها الدستور) فيجعلك حين تكون في بلد ما، وتريد عبور الطريق تنظر إلى جهة اليسار لتتأكد من عدم وجود سيارات، بينما تنظر في بلد آخر إلى اليسار ثم اليمين للتأكد من السيارات المخالفة كذلك. 

ـ بشكل أو بآخر، تقول كل الكائنات لبعضها طيلة الوقت: أنت لذيذ، وأنا أحبك، وامتلك هذه الأنياب الجميلة لأجلك، وهبني الله إياها لأنهشك بإتقان. 

ـ العهد القديم؟ لا تميّز شيئًا بهذه الصفة، ولو كان كتابًا مقدّسًا. فكل العهود قديمة، ما ليس قديمًا كفاية اسمه: تفاوض، وكلما في هذا العالم ليس قديمًا كفاية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مملكة هذا العالم

أبناء الإمبراطوريات السخيفة