قدّمت الثقافة العربية التراثية ظاهرة الشاعر الفحل، ولم تعترف بسواه. وكرّست المدارس والجامعات العربية ذلك النموذج على نحو لا هوادة فيه. وبالتدقيق في هذه الظاهرة، نجد أن مواصفات الشاعر الفحل هي ذاتها مواصفات الدكتاتور أو الطاغية على مر العصور. كان الفرزدق إذا أعجبته قصيدة ما، نسبها إلى نفسه، مهددًا صاحبها غير الفحل بالويل والثبور إذا ادّعى ملكيته لقصيدته، تمامًا كما يفعل الطاغية في حياة الناس.

كان الفرزدق إذا أعجبته قصيدة ما، نسبها إلى نفسه، مهددًا صاحبها غير الفحل بالويل والثبور إذا ادّعى ملكيته لقصيدته

واستمرت هذه الظاهرة في الثقافة العربية حتى يومنا هذا، مع فارق بسيط يتعلق بالتسمية. فنتيجة السوء والهلع الذي لحق البشرية من الطغاة، استبدلت مفردة الشاعر الفحل أو الطاغية بمفردة لطيفة هي: النجم. وساعد في استبدال التسمية انتشار الإعلام وتفشيه، وبروز سلطته وحلوله محل الثقافة. إلا أنه استبدال لفظي لم يغير من المضمون شيئًا، ولمفردة النجم الحمولة الدلالية ذاتها التي لمفردة الطاغية.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة "حكاية أزرق" لمولبوا: عن الشّعر الطّالع من الفظاظة

نتذكر أن بنية الطغيان تقتضي تصنيع وإعادة تصنيع مستمرة لعالم الطغيان. فالطاغية يخلق أشباهه في مفاصل الحياة والمجتمع، على أن يكونوا بعيدين من منافسته على سلطانه تحت أي ظرف. فيظهر الأب الطاغية والمعلم والأخ الأكبر وكبير الحيّ وكبير العائلة وكذلك كبير الشعراء! ربما لم يستطع الحكام العرب تصنيع شعراء فحول في بلاطاتهم لأسباب تتعلق بطبيعة الشِّعر، لكنهم أبقوا، ربما كبديل من فشلهم هذا، على الشعراء القادمين من منتصف القرن العشرين ومن خيمة "الحداثة"، إضافة إلى المصنّعين مسبقًا كنجوم، حتى لو لم يكن أيّ من هؤلاء الشعراء شاعر سلطة، أو حتى لو كان ضدها. فقد حافظوا على الظاهرة وكرسوها كتعبير ثقافي عن أنظمتهم السياسية، كي يبدو الطغيان ظاهرة طبيعية في مجتمعات العرب، فكما يوجد حاكم طاغية كذلك يوجد شاعر طاغية، وهكذا... لا اعتراض إذًا!

الثورات العربية، كما يجب أن تكون، لم تقم على الطاغية السياسي وحده، بل على الطغيان بأشكاله وظهوراته كافة، بما فيه "النجومية" الثقافية عمومًا، والشعرية خصوصًا. ذلك أن الشاعر ينتمي إلى الهشاشة لا القوة، إلى الانسحاب لا البروز... إذ إن عمله ينطوي على التأمل ومراقبة الزائل والعابر والهارب ليضعها في حيز الوجود. الطغيانية والنجومية تعرقل ذلك كله، وتحوّل صاحبها إلى مستذئب يبعد الآخرين ويقصيهم ويحجبهم. وهذا ما حدث مع الشعر العربي، فكم من شاعر كتب ونشر كتبه التي قد تكون مهمة جدًا، لكن طغيان الشعراء النجوم منع ظهورهم وقراءتهم، فظلوا مجموعات صغيرة هنا وهناك، يقرأ بعضهم بعضًا ويكتب بعضهم لبعض. وليس الأمر متعلقًا، فقط أو دائمًا، بجودة شِعرهم!

الثورات العربية، كما يجب أن تكون، لم تقم على الطاغية السياسي وحده، بل على الطغيان بأشكاله وظهوراته كافة

الثورات العربية نجحت إلى الآن، وإن ليس على نحو حاسم بعد، في إخفاء نجوم الثقافة والشعر، مفسحة المجال لآخرين، للإنسان "الصغير" وفق تعبير غرامشي، للمهمّش والمقصي والفقير والمبعد والمتجرئ على سلطان جائر. وأظهرت من أولئك النجوم المتخاذل والمزيف والمدّعي، وكشفت أن كل ما كتبه البعض، طوال حياتهم، عن التغيير والثورة لم يكن إلا لغة للريح، كما بيّنت أن عددًا لا بأس به من نجوم الثقافة والشعر مدافع قوي عن الطغيان.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ثلاثة أيّام في كازابلانكا" لإسماعيل غزالي.. نزع حجاب المدينة

الثورات، وهذا ما تحققه شيئًا فشيئًا، تُظهر المخبوء والمحجوب والمعطّل والأخرس، تفجر المسكوت عنه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد المرابط.. الكاتب الأمي؟

ذكريات ميغيل دي أونامونو.. حوار مع الذات