03-يونيو-2018

تحول موريس أودان إلى أيقونة للثورة الجزائرية (تويتر)

لم تقتصر إشعاعات ثورة التّحرير الجزائريّة (1954 ـ 1962) على الفضاء الجزائري فقط، بل تعدّته إلى القارّات الخمس. حتّى أنّ كثيرًا من الشّعوب، التّي كانت تحت الهيمنة الفرنسيّة نالت استقلالها، لحاجة فرنسا إلى أن تتفرّغ للقضاء على "الوحش" الجزائري. ولم يتحمّس لها الجزائريون وحدهم، بل استقطبت نخبة عالمية واسعة من أصحاب الأرواح والأفكار الثّائرة أيضًا، فانضمّوا إليها وغذّوها بالأفكار والحماس والسّلاح.

كانت نسبة كبيرة من النّخبة المساندة للثّورة الجزائريّة من الفرنسيين

وما أثار الانتباه أنّ نسبة كبيرة من هذه النّخبة المساندة للثّورة الجزائريّة كانت من الفرنسيين أنفسهم. بما عدّته الدّوائر الفرنسية الرّسمية خيانة وطنيّة، إذ كانت قد حسمت، بعد قرن وربع من دخول الجيش الفرنسي إلى الأراضي الجزائرية عام 1830، في كون الجزائر شطرًا لا يتجزّأ من فرنسا، من غير أن تُتبع ذلك بمعاملة الجزائريين على أنّهم مواطنون أصحاب حقوق.

من بين هؤلاء الفرنسيين، الذين قفزوا على المعطى العرقي إلى المعطى الإنساني، فتبنّوا خطاب الحريّة الجزائريّة، الصّحفي هنري مايو (1928 ـ 1956)، والعامل في مجال الغاز فرناند إيفتون (1926 ـ 1957)، والفيلسوف فرانسيس جونسون (1922 ـ 2008)، والطّبيب النّفساني وفيلسوف الاجتماع فرانز فانون (1925 ـ 1961)، والصّحفي والحقوقي هنري علّاق (1922 ـ 2013).

اقرأ/ي أيضًا: فرانز فانون .. وجه للمستعمَرين

غير أنّ حضور أستاذ الرّياضيات في جامعة الجزائر موريس أودان (1932 ـ 1957) طغى على حضور البقية، فبات أيقونة أحرار العالم المساندين لحقّ الشّعب الجزائري في الحرّية والاستقلال.

يعود هذا الحضور الاستثنائي للأستاذ موريس أودان إلى طبيعة اختفائه كلّية عام 1957. إذ بقي اختفاؤه محلّ تجاذب حتى صدور كتاب "حقيقة موت موريس أودان" من طرف الكاتب جان شارل دينيو عام 2013، حيث ضمّ اعترافًا نادرًا للجنرال بول أوساريس المشرف على التّعذيب خلال ثورة التّحرير الجزائرية، وصف فيه ما حدث لموريس بـ"جريمة دولة".

في السّياق، اعترف مجنّد فرنسي سابق يبلغ من العمر 82 عامًا، خلال الأسبوع الثّاني من شهر شباط /فبراير الماضي، لإحدى الصّحف الفرنسيّة بكونه يعتقد أنّه دفن جثّة موريس أودان في مزرعة بمنطقة خميس الخشنة، 30 كيلومترًا إلى الشّرق من الجزائر العاصمة. وأبدى استعداده لمساعدة عائلة الضّحية في الوصول إلى مدفنه.

أمّا العامل الثّاني، في بقاء موريس أودان متألّقًا في الوجدان والأذهان، رغم مرور 61 عامًا على اختفائه القسري، فيعود إلى وفاء وإخلاص وحرص زوجته جوزيت، التي ألغت فكرة الزّواج مرةً أخرى من ذهنها، وجعلت الوصول إلى كشف حقيقة مقتل زوجها ومصير جثته بعد ذلك هاجسها الأكبر إلى جانب تربية أطفالها الثلاثة ميشيل (3 سنوات)، لويس (18 شهرًا)، بيار (شهر واحد)، تنفيذًا لآخر وصية سمعتها من موريس، ليلة 11 حزيران/يونيو من عام 1957، حيث اقتحم المظلّيون الفرنسيون بيتهما في الجزائر العاصمة.

تقول جوزيت أودان (1926) في حوار لمجلّة فرنسية ترجم مفاصلَ منه الكاتب الجزائري بوداود عميّر: "كنّا على وعي بالأخطار المحيطة بنا، ولكنّنا كنّا متمرّدين على الاستعمار، فلم نكن نتحمّل مشاهدة الأطفال الصّغار وهم يمسحون الأحذية في الشّوارع، بدل أن يلتحقوا بالمدارس؛ في السّوق عندما يكون البائع جزائريًا، ينظر إليه الجميع باستخفاف، ولم نكن لنتقبّل ذلك أبدًا".

يعتبر المترجم والكاتب بوداود عميّر قصة جوزيت مع موريس، مثيرة حقًّا؛ "عندما زارتها صحيفة ليمانيتي  في منزلها الفرنسي؛ تفاجأ الصّحافيون بصور زوجها موريس تملأ جدرانه، إلى جانب دفاتره، رسائله، مناشيره، ذكرياتهما، صورتهما معا؛ لم تتزوج بعده، عاشت وفية له، تناضل من أجل الحقيقة، حقيقة مقتله وتعذيبه واختفائه".

اعترف مجنّد فرنسي بكونه يعتقد أنّه دفن جثّة موريس أودان في مزرعة بمنطقة خميس الخشنة

 "رغم تقدمها في السّنّ (87 سنة) لا تزال تتذكّر لقاءها مع موريس في جامعة الجزائر، حيث جمعهما الشّغف بمادّة الرّياضيات والنّضال ضدّ الاحتلال الفرنسي، هكذا تزوّجا وأنجبا ثلاثة أطفال. كان بيتهما مأمنًا يأتيه الفدائيون الجزائريّون، يخطّطون فيه للثورة ولعمليات فدائية في عزّ معركة الجزائر".

يضيف بوداود عميّر أن ابنتها ميشيل (1954) درست الرّياضيات في فرنسا، مثل أبيها وأمّها، لتصبح واحدة من أشهر الأكاديميات الفرنسيات في الرياضيات عبر الجامعات الفرنسية، بفضل أبحاثها ودراساتها العلمية المتميّزة، "هكذا سيمنحها الرّئيس الفرنسي السّابق ساركوزي، وسام شرف من درجة فارس، لكنّها رفضت تسلّم الجائزة المرموقة، وكتبت لساركوزي مندّدة بتجاهله رسالة أمّها الموجّهة له بخصوص اعتراف الدّولة الفرنسية بتعذيب ومقتل موريس أودان".

هذا الزّهد في المكاسب الفرنسية، قابله شغف ابنة موريس أودان بزيارة الجامعة الجزائريّة بانتظام كلّ سنة، فتتطوّع بتقديم سلسلة من الدّروس والمحاضرات.

اقرأ/ي أيضًا: دور البطاقات البريدية الاستعمارية والنساء في صناعة الحرب

وسأل "الترا صوت" بوداود عميّر عن خلفية ما يمكن اعتباره إهمالًا جزائريًّا في حقّ مناضل ضحّى بحياته من أجل أن تستقلّ الجزائر هو موريس أودان، فقال إنّ التنكّر لنضال وتضحيات الآخر غير الجزائري، معضلة فعلية في الأدبيات الجزائرية، "كأنّنا بذلك نقزّم قضية تحررية ذات بعد إنساني عميق، بحجم ثورة الجزائر، احتضنها لعدالتها كافّة أحرار العالم؛ نقزّمها داخل بوتقة شوفينية ضيّقة، لا تشرّف ثورة المليون شهيد في بعدها التحرّريّ العالمي". ويضيف أنه "هكذا ساهم الجميع سلطةً وإعلامًا ومثقفين بطريقة أو بأخرى، بوعي أو لاوعي، في رسم ملاحم هذا الجحود".

تعرّضت زوجة أودان للتّضييق بعد انقلاب 1965 من طرف الرّئيس هوّاري بومدين

ويقدّم عميّر واحدًا من تمظهرات الجحود الجزائري في حقّ موريس أودان، فيكشف أن "أرملة موريس أودان، بعد اغتيال زوجها، حرصت بعد الاستقلال، على البقاء في الجزائر واستكمال نضالها في البناء، داخل البلد الذي أحبّته رفقة زوجها وناضلت من أجل استقلاله، لكنّها سرعان ما تعرّضت للتّضييق بعد انقلاب 1965 من طرف الرّئيس هوّاري بومدين؛ شأنها شأن الكثير من الأحرار، الذين ساندوا الجزائر وفضلوا البقاء فيها بعد استقلالها؛ هكذا ستضطر للجوء إلى فرنسا مرغمة، لتتكفّل بتربية أبنائها الذين أوصى بهم زوجها خيرًا، وهو يقتاد إلى حتفه".

من جهته، يقول النّاشر الجزائري قادة زاوي لـ"الترا صوت"، إنّ موريس أودان، سواء ظهرت حقيقة موته كاملة، أم بقيت محلّ التّفكيك والتّشكيك، فسيبقى أيقونة للتّضحية من أجل الإنسان، متابعًا أنه "آن للمنظومة الوطنية أن تعلّم الطفل الجزائريّ الاعتزاز بهذا النّوع من أحرار العالم، مثلما تعلّمه الاعتزاز بشهداء الثّورة ومجاهديها من الجزائريين".

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعادة الاعتبار إلى شاعر الثورة الجزائرية

هل أساء فيلم أحمد راشدي الجديد للثّورة الجزائرية؟