17-أبريل-2023
h

لو خيّروني في أي مرحلة تريد أن تعيش شبابك؟ سأقول بلا تردد، الستينيات والسبعينيات. أي أن أولد مثلًا بعد منتصف القرن العشرين، وأكون مراهقًا يرغب في العدالة بينما غيفارا ينوي تحرير العالم وخروتشوف يضع إصبعه في أنفه خلال أزمة خليج الخنازير. وأستمع بحماس من الذين هم أكبر مني عن النضال من أجل تحرير الجزائر. سأدخّن وأقرأ بشراهة وأذهب في أحلام يقظتي إلى باريس للمشاركة في الحركة الطلابية.

وعندما أدخل الجامعة سأترقب عمليات منظمة التحرير وأتكلم على أساس أنّ فلسطين ستعود كاملة والمسألة مجرّد وقت. سأكون متيقنًا من تحقيق التغيير والعدالة وأربي شواربي وسوالف شعري وألبس بناطيل "الشالصطو" وأستمع إلى فرقة البيتلز وأحفظ شعر مظفر النواب. ثمّ سأنجو بأعجوبة من الذهاب إلى لبنان والتورط في القتال خلال الحرب الأهلية هناك.

لن أجد كلامًا كثيرًا لأقوله وكأنّ لا شيء حدث طيلة فترة الاعتقال، سأتذكّر فقط كيف كنّا نقضي الوقت، لأكتشف أنني سُجنت يومًا واحدًا كرّر نفسه ثلاث عشرة سنة.

أود لو كنتُ في السبعينيات كي أعشق وأعمل ولا أكترث كثيرًا للمال. ثمّ عبر بعض الأصدقاء أنضم إلى حزب العمل الشيوعي فيعتقلني النظام وأمكث مع رفاقي في السجن ثلاثة عشر عامًا، أقرأ خلالها كتبًا كثيرة وأتعلّم الحياة وأواجه اليأس والندم والأمل والأسئلة المستحيلة. ثمّ أخرج فجأة في التسعينيات فلا أجد سوى طاغية عجوز وبلاد تنتظر. سأجالس أمي طويلًا وأربي أولادي خائفًا من أن يعيدوني إلى هناك.

وحين يصرخ الناس عام 2011 "حرية حرية حرية" سأخرج إلى الشارع لأهتف وألتقي رفاقًا لم أرهم منذ سنوات. وعندما أصل البيت في المساء سأطلب من أبنائي ألّا يتظاهروا في المناطق الخطرة، متهربًا من الإجابة عن أسئلتهم وأسئلة أصدقائهم بخصوص موعد سقوط النظام وعن المستقبل الذي يُفترض بمعتقل سابق أن يعرف ما هو.

ستصبح الثورة حربًا ويسافر أولادي فأصمتَ وأهتمّ بزوجتي، وأمضي الوقت في القراءة والعناية بالنباتات ومشاهدة الأخبار.

وهكذا ستتوالى الأيام وأكبر في السنّ إلى أن يتصل بي أحد الرفاق، اسمه مروان محمد، الذي لُقّب بـ"الرّخ" يوم التصق بكل منّا لقبٌ خلال شهور الملاحقة والتخفي. سيخبرني أنّه يسجل مقابلات مع رفاقنا في حزب العمل ليتكلموا عن تلك التجربة وحياة المعتقل، وكيف عشنا نحن الذين حلمنا كثيرًا فسُجنّا طويلًا. لينشرها تباعًا على قناته في موقع يوتيوب ضمن برنامج سمّاه "قصة سجين"، ثم سيطلبُ أن يُجري معي مقابلة، سأوافق ونحُدّد موعد اللقاء.

سيمتدّ الحديث أكثر من ساعة تشبه اقتفاء آثار الألم. لن أجد كلامًا كثيرًا لأقوله وكأنّ لا شيء حدث طيلة فترة الاعتقال، سأتذكّر فقط كيف كنّا نقضي الوقت، لأكتشف أنني سُجنت يومًا واحدًا كرّر نفسه ثلاث عشرة سنة. حين أُغلق مكالمة الفيديو سيصَغُر قلبي ويدمع، سأحسّه بعيدًا عني مسجونًا داخل صدر شخص آخر، يجلس في يومٍ مشمسٍ يرخي قدميه من على سطح السجن، ويسأل نفسه إنْ كانت الأجيال المقبلة ستقبض ثمن أجمل سنين عمره.